وبينما كان منشغلاً بصمته عن الدنيا.. وبرحله جذور النخيل في ذاته إلى اعماق الذاكره ..وقعت عيناه على اركان مكتبه الصغير.. وتلك الوردة المبتسمة بفرح على سطح المكتب.. لكن هذه المرة ما اثار دهشته.. قصاصة ورق بجانب ابريق الماء.. وخلف رواية دمعة وابتسامة لجبران خليل جبران..
اقترب بذلك الصمت المعهود.. تملأه اركان ثورة جديدة في عالم الذكريات ..
وسار مقتربا من مدينته الادبية فوق رقعة مكتبه....بضع من امتار تفصل بين سريره البني الداكن ذو الجدران الاربعة وصاحب اصوات الضجيج المستمرة .. وكأنه كان يتأوه كلما جلس الى اركانه .. فقد مل جلوسه الدائم اليه.. وامتلائه بمدن الحزن والبكاء..
الا ان تلك الثورات وانماط الضوضاء الشهية لم تفلح في ايقاظ النائم في اركانه....وكأن تفاصيل السبات باتت جزءا من حكايته اليومية.. تابع المسير بخطواته المتثاقلة.. والدهشة تملأ اركانه.. تلك القصاصة التي رآها.. اتكون قصاصته التي اضاعها قبل سنين...
وصل الى اركان مدينته...وتلك الوردة المبتسمة بتثاقل فوق احزانه...لا ليلتفت الى عطر نسائي اراد ان يعثر على ذكرياته.. وانما لتقع عينيه على رواية ...مدينة الملائكة...
تلك الرواية... نعم اذكرها جيدا.. كم من مرة صحبتني في رحلة الى اركان مدن العشق.. وكم من مرة رسمت لي اركان ثورة الحب الاولى...
فبنيت تفاصيل قصتي وبيلسان.. من على اسطح الكناريات القديمة.. ومدن الملائكة.. وروايات الاساطير الشكسبيرية...مسكينة انتي يا بيلسان.. ما عرفتي طعم الحب الذي رسمته.. وما تذوقتي نشوة العشق بعد الغياب.. كل ما اردتي قليل من الكلمات الزائفة..فما علمتي ان مدن العشق لن تكون الا على صدري....
وعادت تلك الروائح المنسية ترتعد بحرارة شوق امام اجفان كنان....والاف من ثورات اقلامه المنسية .. عادت من جديد...ترقص بانصات...امام لحنه المسائي...
اقترب وعيناه تدور في صمت في محاجرها... حينا ترتعد خوفا من الاقبال على تلك القصاصة.. وحينا تتحرك شوقا لتحصل على تلك القصاصة...فتلك القصاصة.. تحمل ما ضيعه كنان قبل سنين....
وبينما يده تسير في رحلتها الى تلك القصاصة.. استوقفت عينيه... صورة اخرى...للوحة كان قد رسمها.. ومنحها من روحه ذكرى...لوحة كل لون من معالمها.. هو حكاية وذكرى... لكم اتقنت صياغة التفاصيل.. ولكم اجدت بناء المضامين.. لكنني لم اعهد نفسي تائها في عالم لا يعترف بالتفاصيل الصغيرة.. وعاد ليقبلني..
لا اريد.. لم اعد اريد.. الانضمام الى قافلة المهمشين .. اريد ان احمل التفاصيل الصغيرة.. وعلبة الواني.. واتوجه لارسم ثنايا روحي في صفحة بيضاء صغيرة...
سامحيني ايتها المدن الملوثة بالضياع.. لن اكون عابرا على سكك القطارات.. وانما ساكون تفاصيل من اللوان الصامتة...
على تلك الصفحة البيضاء.. كان قد رسم... شيخا بعباءة سوداء.. وملامح بطولية صامتة.. كان لتشققات الارض ولجداول المياه من وجهه نصيب.. وتلك الكوفية المتألقة فوق راسه... كانت رايات النصر الكبير... على اركان وجهه السمراء... اوجدت الدموع دروب.. وذرات التراب البنية التي عشقها... كانت جزءا من ابتسامته السمراء..
تلك الابتسامة التي ما عرفوا يوما.. اي حزن خلفها يقبع.. واي تحد من على اركانها يولد... مشهد ذلك الرجل... وعبائته السوداء.. والارض التي ارتسمت على رقعة وجهه.. كانت بالنسبة لكنان .. رواية.. كلما نظر الى اركانها.. منحته طريقا جديدا للابداع... هكذا كان يقضي كنان يومه.. مستلقيا على سرير من الذكريات.. ومتاملا لوحة من جداريات الزمن...
اما الصورة الاخرى...فقد تعلقت على جداره الاخر... وكل ما كان يمسك زواياها....بقايا من خيط ابيض.. كان قد وجده معلقا على نهاية ثوب والدته... فاستطاع التقاطه واضافه لجدارية كانت تقترب من السقوط... اواه .. اواه.. حتى خيط تعلق بفستان ثوبك يا امي.. كان يكفي لاقامة مدينة آيلة للسقوط.. وكان جديرا بحمل زوايا لوحة.. اتقنت فن السقوط....
لن انظر اليكي الان يا صديقتي.. وساعود حاملا لكي ذكرى.. لكن دعيني اكمل رحلتي الى تلك القصاصة.. فلم اعد اطيق الانتظار....
في تلك المدينة الادبية.. كانت جزر من الثقافة المختلفة.. ومحيطات من العلوم.. وسماوات من الادب.. في زاوية.. ارتسم جبران خليل جبران بما يحمل من جماليات.. والى جانبه استقر بدر شاكر السياب... واحلام مستغانمي... كل منهم حمل الى كنان فكرة.. وكل منهم كان جزءا من نص يومي.. اعتاد كنان ان يخيط تفاصيله.. على انغام فيروز.. ومارسيل خليفة وام كلثوم.. وظلال بيضاء من سيجارته البنية...
كل هؤلاء.. وكثير من ذكريات.. راحت تتراقص بفرح امامه..ما استطاعت ان تثني يديه عن المسير.. ومحطات استوقفته لبرهة.. لكنها ما نجحت في حمله الى التفاصيل... اي قصاصة تلك التي استطاعت ان تسلب كنان من مزاجه اليومي.. ومن ذاكرته الممتلئة بالاحداث....
وتابعت يده رحلتها.. تحلق فوق مدنه المتناثرة.. وتضفي على الوانها الباهتة.. املا ان كنان سيعود من هنا من جديد.. حاملا ذكراه.. فها هو قد وجد اخيرا تلك القصاصة الضائعة منذ سنين....
وصل....طبول بدات تضرب انغامها في صدره... قطرات ماء تصببت في شوق من على جبينه... لكم اشتاقت الامطار الى ارض جبينه.. ولكم ارادت ان تعود من جديد.. تتناثر على قصاصاته ولوحاته... وهاي هي تولد.. لتعلن عن بدء رحلة من الانتصار...
وصل.. وهاي هي يده السمراء الخفيفة... تمسك بزمام معركة العبور... انها قصاصتي الضائعة.. نعم انها هي... كلمات ما نطقها كنان علانية.. خوفا من لوم.. فقبل سنين كان قد اعلن كنان وفاته.. وتم نشر التعازي في الجرائد اليومية.. فبكت عليه اركانه.. وبكت عليه السما في عيني والدته... و السبب ضياع قصاصة ورق... ابتسامة ارتسمت على اركان وجهه السمراء... متيمة بالخوف من الفراق... وعاشقة للقاء... اما عينيه البنيتين.. تلك التي ارتسمت الارض في اركانهما.....فقد قادتا لحن اوركسترا الولادة اليومية...
وصل وها هي يده تلتقف ما امامها من قصاصات.. اتلقيها جانبا.. وتمسك دون اي متاهات.. قصاصة الوجود الاخيرة...
نعم انها الفرصة الاخيرة.. اما ان تعلن الولادة من جديد. واما ان يكون ذلك الخبر الذي ارتسم على صفحات الجرائد الصفراء الباهتة.. حقيقة....
حمل اركان القصاصة في يديه... حاملا اياها.. الى محيط شفتيه... ليمنحها نسيم البحر اليومي...اطلقت شفتاه تلك الريح الخفيفة... واصوات من الانتصار... لتنفض الافا من بقايا غبار..
كان قد استقر فوق قصاصته الاخيرة....غبار كان اعتاد ان يمحو اركانه بحرية عن قطع الخشب الكبيرة.. غبار كان يتقن صياغته من قطع الفخار القديمة... وغبار كان ينسج بقاياه على اوراق دفاتره اليومية...غبار نسي كنان ان يزيله.. فتراكم بحزن فوق اركان قصاصته الضائعة....
لن انساك من جديد.. ولن اتركك ترسمين تفاصيل الحكاية.. كلمات ارتسمت على محيط شفتيه البنيتين...ونسائم الهواء تنطلق من على تراكيبها الخجلة... لتمحو ما علق في قصاصته من غبار النسيان....
اكوام من غبار صامتة.. ارتحلت من على جدران الصمت الابدية.. لتشارك العالم.. رحلة التوجه الى النهايات... وملامح لقصاصة اختفت.. عادت للظهور...عادت لترسم على جدران الذكريات حكايات الوجود...
اقترب منها.... والصمت يملأ المكان... نظر اليها... لتتسع عيناه....اتكون قصاصتي التي فقدتها.. ام انها بقايا من اوهام....
اشاح نظره مبتعدا عنها قليلا.. فما عاد يملك قدرة الاصغاء.. الا انه ما لبث مجددا ان عاد... لتستقر في انماط عينيه تفاصيل القصاصة.... اتكون هي رحلة العودة من خلف اوراق الجرائد الصفراء الباهتة؟ ربما....
يتبع.....