[align=center]الحلم ...!!![/align]
[align=center][/align]
[align=justify]
كنت أحلم بمطر أزلي يغسل كل شيء ...!!!
الخوف ...!!!
الحزن ...!!!
الصمت ...!!!
وحتى الموت ...!!!
مطر لا يتوقف أبدا ً ...!!!
مطر يتشكل أنهارا ً وجداول لا يمحوها الزمن ، تسير في مفاصل الأرض كما تسير أوردة الدم في الجسد ، ثم يستدير بحيرة ً حولها الشجر العالي والعرعر والصفصاف ودُفلى الغدران ، بحيرة تتراما على جنباتها أزهار الدحنون وسنابل ريانة كقلب عاشقة حتى العظم ، تعشعش فيها طيور الحجل والفراش الملون ، حتى الجنادب الهاربة من وجه العتمة ، والرمال الناعمة ، التي هربت من وجه الريح ذات هبوب تشريني غاضب ، فأثثت المكان بحرير أبيض ذائب ، وسرائر للشنار والقطا ، وبنات آوى ، وأسراب النمل الأسود ، حين تعطرها رائحة الندى ، والعشب الذي يبسته الشموس حتى ينبت في العام المقبل ...!!!
كنت أحلم بمطر كالذي تزغرد له أمي ومحراث جارنا ، وديوك الجيران ، وجدائل بنت تنتظر العطر المؤجل للبيدر في الصيف القادم ، مطر كان يفتح شهية أبي المسدودة للغناء "يا الله غيثك يا ربي تسقي زريعنا الغربي ..." ليرسل قبلاته نحو الغيم ويمسح من دفتر ذاكرته خساراته القديمة ، وشكوى الدائنين من التأجيل ، وترحيل الفائض من الوجع للسنة القادمة ...!!!
مطر كانت تغرق فيه أقدامنا بلعبة الطين ...!!!
لنفتش في أحشائه عن دودات لزجات طويلات ، ونسابقها بأصابعنا الهزيلة قبل أن تنزلق في قلب الطين ، ونـَـشتم الأسماء الغريبة بحروف منقوشة برؤوس أصابعنا على حافات الطرق الكئيبة ، والمذبوحة بالعزلة والنسيان ، ونفتش عن حَمَامات برية دائخة أضلـّـت طريقها داخل أروقة المنازل العتيقة ...!!!
مطر ...!!!
كنا نرسل عبر جداوله الصغيرة رسائل من سُفن ، رسائل مجهولة لأناس لا نعرفهم ولأي كان على الدرب ، تنقلب أحيانا ً وتستقيم أحيانا ً أخرى لتستقر في بطن الوادي الكبير الذي يجري مدويا ً حتى يخرج من القرية إلى حدود الصحراء البعيدة ، مودعا ً تصفيق أيادينا المعطرة برائحة الطين ، لمن لا تنقلب سفينته عند التواء الجداول في زاوية العمر ...!!!
كنت أحلم ببحيرتنا تكبر ، ليكبر معها فرح البنات والعجائز والصبيان بأجمل وأطول ما يكون مُنذ الفجر وحتى الغسق الوردي الذي يلف كآبات الناس بصبغته السحرية الهادئة فوق تلال قريتنا، وبأجمل ما يكون اللعب والمطاردة والاختباء في بطون المغاور القديمة ، والرقص تحت مطر لا يخجل من كشف مؤخراتنا الهزيلة ، وصخور أبوية تحنو علينا بدفء قليل ، طاردة عن قاماتنا كل ريح ومطر إلى جهات بعيدة من دون أن يصيبنا الملل ، مكتفين بالتزاحم كعصافير الدوري ، والتلذذ بدفء أجسادنا تحت صخرة ملساء حنونة لا تجرح مثل كف الجَدات ، لاذت بها غيرنا من دودات طريات وعطر زمن عتيق يسود على جسد الأرض ...!!!
كنت أرى البحيرة تكبر أمام عيني ...!!!
تكبر فيعرف الناس من إتساعها أن العام سيفيض خيرا ً عميما ً ، فأرى فيه الموارس ضاحكة من بعيد ، والشموس لا تقف في مكان ، وبراعم البابونج والأقحوان وسوسنة البراري السوداء ، ورجل الحمامة ، والخزامى ، والدحنون المتباهي بحمرته الفاقعة ، وسيقان الخرفيش الشوكي تتطاول عبر التلال ، ومرّار الحواكير ، ووجها جدتي وأمي يطفحان بفرح أكيد ، وجدتي تدفعني دفعا ً بعصا غليونها الطويل لجمع البابونج من سفوح التلال النظيفة ...!!!
وكم كنت أفرح بهذا النبات العطري الشهي الذي يمد خيوطا ً ناعمة شديدة الخضار ، تحمل فوقها كريات صفراء من حرير ، تلمع بين الصخور كبلورات اللازورد الثمين ، أجمعه من أطراف السلاسل الحجرية ، وتشققات الصخور على أكتاف التلال الغربية ، أحشوه في "مخلاة" الخضراء جدتي ، فتفرح به كطفل جاءته الحلوى من غير ميعاد ، تفرده في حضنها مبتهجة ، وتغرق بشم رائحته العطرية الفواحة ، فتؤكد مغمضة عينها "ريحته من ريحة البلاد ، من ريحة الفردوس" وتؤكد أنه من زهور الجنة التي نثرها الملائكة نعمة ً للعباد ...!!!
أذكر في آخر مرة ذهبت فيها لقطف ذلك النبات العطري ، أنني لم أرها ...!!!
كيف جاءت ...!!!؟؟؟
أو من أين ...!!!؟؟؟
لا أدري ...!!!
جنية صغيرة ، انشقت الأرض وخرجت منها على شكل نجمة مراوغة ، شجر غريب ، أغنية مخبأة للعابرين إلى ماء بعيد وسماء ثانية ، أذكر أن البحر كان بين يدي ، ورموش الأرض على كتفي ، وزهو العشب ما انفك يراودني عن أرض لا تحمل إلا وقع خطاي ، وأنا أول قطف يتدلى من شجر الموسم ، أول ريشة طائر ، أول شتلة زعتر تشكلت سيدا ً بجبل أمامي ، وسهول من الفراغ لا تحمل غير شبابة راعي ٍ مهجور ، والريح تشهد أن الذئب كان يغني وأن الراعي جريح ...!!!
جنية صغيرة ، آدمية ، نحيلة الوجه ، طويلة الأنف ، واسعة العينين ، ذات رائحة عشبية حبقية جميلة ...!!!
لم أكن قد رأيتها من قبل ...!!!
غير أنها كانت تتبعني كقبرة راقصة ، تراقبني بعينها الحذرتين من بعيد ، حينها كان المطر قد توقف مُنذ أيام ، أما الريح الغربية الباردة فلم تكن قد توقفت بعد ، غير أنها حاضرة ...!!!
حين تأبطت حقيبة الخضراء جدتي وأمعنت مشيا ً نحو "المغاريب" حيث الشمس تؤجل سفرها فوق التلال ، حينها كانت عصا الخضراء جدتي بوصلتي في الاتجاهات عندما قالت :-
"بابونج المغاريب أحسن ... نقي" لم تنجسه دواب الأرض ولم تطأه قدم إنسان وطاهرٌ مثل أصابع الربيع المبارك ...!!!
في أرض "المغاريب" بحثت فوق التلال ناصعة البياض ، وجدته وجمعت منه ، ونبشت أول الفطر الذي أعلن النضوج بشق رداء الأرض ، والعروق الخضر بزغت بخجل تحت الشمس وامتدت أنساغها البلورية الشفيفة وأوراقها الطرية الندية لتداعب الريح وخيوط الشمس ، وتحتفل بموسم جديد ...!!!
تذوقت حلاوة بعض العشب ...!!!
شممت رائحة زهر ...!!!
ولمست زغب الأرض بشهوة عصفور دوري في نيسان ...!!!
وخبأت بعض اللذة في حقيبة الخضراء لوقت مؤجل ...!!!
شعرت بنشوة غريبة تشدني للغناء والصراخ والركض تحت الشمس ، والقفز فوق الصخور الرطبة الباردة ، ومطاردة عصافير البراري الفضية ، وجمع أكبر قدر من حلزون الجذور الرطبة ذي اللون الرمادي ، جمعت منه حتى امتلأت كفي ، كان الحلزون خائفا ً كئيبا ً ، لم يجرؤ على إظهار رأسه واقتحام الريح ، وظل لائذا ً بأطراف الصخور ، تجاسرت أكثر في البحث عنه تحت الصدفة اللولبية المغطاة بالتراب ، كسرت بعضها مفتشا ً عن ملامح ملاذه ، لم أجد أية ملامح سوى كتلة هلامية رخوة ، أشبه ببصاق وسخ ، تترجرج كلما دفعت في أحشائها غصن يابس ، أقشعرّ جسدي لهيئتها وهي تتمزق على طرف الغصن وتتسرب رائحتها الرطبة في أنفي ، فخشيت أن تحل عليّ لعنة ما ، بدأت التمحور حول نفسي والاختباء بصخري ، وأنا أحتاج لأنفاس أخرى وفضاءات أكثر من عتمة صخرة ، قذفت حفنة الحلزون فوق الصخور تم ركضت ... وقفت ودرت حول نفسي حتى سقطت من شدة الدوران ، وكانت التلال تدور معي مثل رحى المطحنة ، فجأة شعرت بأنني بحاجة إلى التعري وإلقاء ملابسي في أول بئر مجهورة أجدها فوق التلال ...!!!
لم تكن الريح باردة كثيرا ً ، غير أن هبات منها ما بين اللحظة والأخرى كانت كذلك ، كما أن خيوط الشمس لم تكن حارة ...!!!
كان المدى جميلا ً وبهيا ً إلى حد كبير ، حتى أن زرقة السماء كانت صافية وشديدة الوضوح مثل قمر الحصادين في تموز ، مثل عناق الغائبين ودموع الأمهات ...!!!
تبعت رف شنانير ينتقل من تلة إلى سفح في أسفل الوادي ، رأيت التلال مكللة بالخضار والألوان ... أما السهول فكانت أكثر احمرارا ً ، قانية ، معتمة في بعض زواياها بفعل الأودية البعيدة ، والجداول التي نسجتها السيول من أول الشتاء ، كخطوط الحناء في كف عروس ، وفي وجه جدتي الخضراء ...!!!
أما القرية ... فقد رأيتها من أعلى التلال البسيطة كومة َ حجارة متلاصقة احيانا ً ، ومتباعدة أحيانا ً أخرى ... كأنها كتل سقطت من مرتفع ولم تستقر بعد وكدمعة تتدحرج في خدّ متعب ، بحثت عن دارنا فلم أميزها ، كانت ساقطة بين الدور المتشابهة ، أمعنت النظر في أعلى القرية ، ورأيت دارنا كما هي في ذاكرتي ، ورأيت أمي والخضراء جدتي تنتظران خيوط الشمس الدافئة مع نساء الحارة في زاوية الدار الشمالية ، وكلبنا الأسمر مقطوع الأذن يرتمي في الظل ينظر بعينين حمراوين إلى حلقة النساء ، وكأنه يشاركهن الحديث بالاستماع البليد ، والنعاس الدائم ، ونفض الذباب المتطاير فوق عينيه بين لحظة وأخرى ، والنظر المفاجئ إلى الزوايا التي تخترقها خيالات من يمر أو يقف في كل حين ...!!!
رأيت جارتنا نجمة تطارد أشباحا ً لا يراها أحد سواها ...!!!
وتقطف ثمارا ً مجهولة من شجر غريب فوق رأسها وتخبئة في ثنايا ملابسها الممزقة ، تكلم الريح ، وتعصر فاكهة الوقت على حجر الطريق ، وتبعث بإشاراتها الغريبة والمتواصلة في اتجاهات موغلة مسحورة ...!!!
ومشيت بين التلال والأودية كثيرا ً ، قفزت بين الصخور الباردة شاربا ً الريح ، طارت من حولي العصافير الخجولة ولكنها لم تبتعد بل ضلت ترقص حولي ، نقشت بحجر صوان أسود حروف أسمي فوق صخرة عريضة ورسمت قمرا ً يرتدي قميص العشب ، ومثل طائر وحيد اقتعدت تلة كبطن حبلى ، تخيلت أبطال قصص رُسمت ملامحهم في ذاكرتي بفعل أمي والخضراء ... رأيت خيولا ً تجمح وتسابق الريح وتصهل في المدى الرحب ، ورجالا ً لا حصر لهم ، وقامات تصل أطراف الغيم فتبعثره في تلويحة كف ...!!!
في تلك الساعة ...!!!
كانت فكرة التعري تلح علي ...!!!
كأنما كنت على شاطئ تراودني أمواجه عن نفسي وتدعوني للولوج فاستجبت ...!!!
تعريت ، ونضوت ملابسي قطعة قطعة ...!!!
شعرت ببرودة الريح تطرق وتصفع بدني ، أحسست برعشة تسري في أعماقي ، ودهشة تدعوني للرقص والغناء والتمدد في الفضاء كيفما أشاء ، لم أترك حجرا ً أو صخرة لم أشركها في الصخب ، طيور كثيرة حلقت فوق رأسي ، وأخذت تنشد عن قرب ، فقذفتها بالضجيج والغناء ، فجأة سمعت ضحكة خلفي أشبه ما تكون بلثغة طفل فوق صدر حنون ، أو هبة ريح خفيفة ، أو كليهما ، لم أميّز ذلك ، إذ إنها لم تتكرر ، فنظرت حولي فزعا ً ، متابعا ً مصدر الصوت من أضيق زاوية بين الصخور ، ثم رأيتها خلفي جنيّة صغيرة نحيلة الوجه ، طويلة الأنف ، واسعة العينين ، ترقص جدائلها الغجرية مع الريح ... ولم يكن ثمة ريح ...!!!
ليست قريبة ، كما أنها ليست بعيدة ، غير أن المسافة على مرمى وردة بين يدي ، تطل من زاوية كثيفة ، ثم اختفت ...!!!
عندئذ ركضت نحو ملابسي على عجل فلم أجدها حيث وضعتها ، كان الفرح قد بدأ يتلاشى ، سقط ، تحلل مثل كتلة ثلج صهرتها النار فجأة ، فأنقلب كل شيء ...!!!
مدت الجنية رأسها من زاوية أخرى ، استدرت حولها بكامل عُريي وخيبتي ، قذفتها بحجر ، سرعان ما تفسخ شظايا حادة سمعت أزيزها في الفضاء ، منحتني شيئا ً من الثبات أكثر ...!!!
صرخة مكتومة تناهت إليّ ثم أنين ، اختبأت حين رأيت جسدي مفضوحا ً تماما ً مثل باب مخلوع ، قفزت خلف صخرة عارية مثلي ، تعثرت ... سقطت خجلا ً ثم نهضت ، نهض الخجل أولا ً وتبعته متلفتا ً حولي ومحدقا ً بالفراغ ، رأيت الجنية تنظر نحوي وترمقني بنظرات الدهشة المفاجئة ، قلت لنفسي لا بد وأن الجنية تحاول تقدير المسافة بين غصن الشجرة وجذعها ، والوردة وعطرها ، وتخمن ما أنوي فعله بعد ...!!!
[/align]
[align=center]يتبـــــــع > > > [/align]
مواقع النشر (المفضلة)