ها هي ذكريات العام المنصرمِ ماثلةٌ أمام عينيّ ، تمعنان بكل مشهدٍ ترياه ؛ مشاهد محزنة ، مضحكة وأحياناً مشاهد كما يطلق عليها في هذا العصر " دراميّة " ، تلمعان كالبرق حين تريا الأمل يتجسّد بتقدير واحترام معلّم ، تبكيان عند كل موقف يأسٍ أو خوفٍ إزاء امتحانٍ قاهر ، وتضحكان عند كل موقفٍ سخيف ... أجل ... إنها اللحظة النهائية ... لحظة الولادة ... لحظة إعلان نتائج الثانوية العامة ....

أرى كل ما فعلناه خلال سنتنا الدراسيّة الأهم ، أرى لحظات بداية العام الدراسيّ عندما كنا في أشدّ الحماس ، كنا كاليرقة التي قد خرجت لتوّها من شرنقتها معلنةً تحدّيها للعلن بأنها ستكون مفخرةً لقوم الفَراش فهي ستستطيع التحليق وتثبت نفسها ، لكن في ذات الوقت ... يخالجها شعورٌ من الخوف من المجهول ، كنا خائفين بان هذا الأمر لن يكون كما نحلم بأن يكون ، كانت أحلامنا ورديّة بالفعل ... تجسّدت بكتابة كل طالبٍ للعلامة التي يأمل الحصل عليها على مقاعد الدراسة ، فذاك يحلم بمعدلٍ يدخله كلية الطب في أرقى الجامعات هنا ، وآخرٌ يحلم بأن يدخل إحدى كليات الهندسة كي يسافر خارج القُطر فيثبت نفسه ... وكانت أكثر الأحلام جرأةٌ بالذّي تمنّى الحصول على المرتبة الأولى على مستوى المملكة ... شيءٌ جميل .... وطموحٌ عالٍ .... متمثلاً ما قاله النبيُّ الأعظم : " إذا سالتم الله الجنة ، فاسألوه الفردوس الأعلى منها " ... كلنا كان يطمح أن يصل للمرحلة التي يستطيع أن يقول فيها : " يا امتحان الوزارة .... ائتني متى تشاء "
وها قد بدأت سنتنا الدراسيّة على خير لنصل إلى منتصفها ، وقتها بدأ يشعر كل طالب بالملل والتعب والإرهاق ... فقد أنهكتنا امتحانات المعلمين ، وفي ذاك الوقت ،بدأنا نشعر بكلام طلاب الدفعات التي سبقتنا ومرت بنفس تجربتنا ، أصبحنا لا نظهر كثيراً ، لم يعد أهلنا يعرفوننا ، فبرنامج طالب التوجيهي بدا أكثر ازدحاماً ، فكان كل طالبٍ يرجع إلى البيت ، يخلد إلى النوم قليلاً ، ثم يبدأ المنوال الذي اعتدناه منذ بداية السنة مع كتب الدراسة ... اصبحت غرفنا كالكهوف والمغائر ...لم نعد نهتم كثيراً بأنفسنا .. أصبحنا قلما نخرج مع الأصدقاء ، فالكدّ في المدرسة في النهار، والجهاد مع الكتب والدراسة مع الاقمار ...

أصبحنا الآن نعرف أن كل جارٍ كان يسهر ليلاً فهناك احتمالان وحيدان لا ثالث لهما لسهره ؛ فإما عاشقٌ قد أنهكه فراق محبوبته حتى اصبح يناجي النجوم في السماء عالياً ، يرى وجهها مع كل ومضةٍ من شهاب ،أو طالب ثانويّة عامة يناجي الكتب والدفاتر في الأحضان ، يرى سؤال وزارة تحت كل خط أو كل ملاحظة أبداها المعلم تحت مسمّاه المشهور ... " متوقعٌ قدومه "
وها هو المشهد عندما قَدِمَ أحد الأصدقاء ببرنامج الامتحانات الوزاريّ حال نزوله حصريّاً على أحد مواقع الانترنت التي تُعنى بأمور طلاب الثانوية العامة ، ولا تستطيع عزيزي القارئ تخيّل مشاهد الطلاب مهما وصفت لك من ردود أفعال على هذا البرنامج ، وكأنّ مؤتمر القمة العربية قد عُقِد بين الطلاب ؛ فذاك يشجب ويستنكر موعد امتحان اللغة العربية، و آخرٌ محتجٌ على الإجازة المعطاة قبل امتحان الرياضيات ، وذاك يندّد..... وآخرٌ ينظر مباشرة إلى موعد آخر امتحان يخطط ماذا سيفعل في يوم تحرير الأمة الموعود!!!


وها هو موعد أول امتحان قد حان ، والأيدي ترتجف خوفاً لا تعرف كيف تمسك الأقلام ، والأذَنُ المساكين في قاعات الامتحانات تراهم يَسرُون جيئةً وذهاباً إلى حنفيّة المياه كي يحضروا أكواب الماء للطلاب المرعوبين .....
إن لم تتخيل عزيزي القارئ مشهد طالب توجيهي يقدّم امتحاناً وزارياً سأحاول أن أقرب لك الصورة قدر المستطاع .... تخيّل اليوم الذي تُشَنُّ فيه الحرب على بلدٍ ما ، كيف ترى القوات العسكرية الدفاعية تحاول تقديم كل ما لديها من سبلٍ لحماية أرواح المدنيين ، وكيف أن الضباط يأمرون الجنود بتنفيذ كلّ امرٍ يعتقدون أنه الصواب ، فتتضارب الخطوط ... وتكون المجزرة بين الجيوش ... هذه حال الطالب وقت تقديم امتحان الوزارة!!
فإذا فهمت أن القوات العسكرية على أنها خلايا الذاكرة المنهكة ، وأن أرواح المدنيين هي العلامات في كل فرعٍ من سؤال ، وأن الجنود هي اصابع يدك ، وتشابك وتضارب الخطوط هي حالات التردد في الإجابة ؛ عندها ستفهم ما أعنيه !!
امتحانٌ تلو الآخر ، صفعةٌ تلو الأخرى ، أصبحنا كالفاقدين الوعي والذي لم تنفعه أي صدمة كهربائية في إحياء نبضه من جديد ، حتى عادت لنا الحياة بعد نهاية آخر امتحان ، البعض أنهاها على خير ما يرام و الآخر قد اجتاز هذه المرحلة بأقل الخسائر كما يأمل ..

كل ذلك في كفّة وما يحصل بعدها في كفةٍ أخرى ، عندما أصف الرعب الذي سيعيشه هذا الطالب المسكين قبل فترة اسبوعٍ على الأقل من إعلان نتائج الدورة التي قدّم بها ، فما سيراه سيكون كالكابوس الذي إما سيستمر أو ينتهي ... وما أصفه حقيقة يواجهها كل طالب ، مجتهدٌ أم كسول ، عاملٌ أو خامل لكل نوعٍ دوافعه ... تراه يحلم كل ليلة عن علامةٍ فقدها ، أو إجابةٍ مبهمة لن يستطيع المصحّح فهمها ... ليحكم عليه الحكم القسريّ بأن يفقد علامة السؤال ... وعندها لن ينفع هذا المسكين أي لجوءٍ سياسيّ ....

وفي النهاية ..,, وإن كنت آسفةً قد أسهبت في رواية مشاهدي ومشاهد طلاب التوجيهي ... ستأتي اللحظة التي تعلن فيها نصرك أو هزيمتك...

يا اهالي ... ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، كونوا يدي عونٍ لنا ، كونوا استراحة التنفّس لا السجان ، فكل شيءٍ نقوم به هو لأجلكم ، لبرّكم كما أوصى الإله في السماوات العُلى ...
يا أساتذة ... ادعموا هؤلاء الطلاب بكل ما تستطيعون فعله لمساعدتهم لاجتياز هذه التجربة بنجاح ، فهم يرونكم كملائكة الرحمة في طريق الحرب والآلام ....
يا طلاب ... ما سيكون .... سيكون .... والذي تحزّم بالثقة بالنفس والتوكل على الله لا التواكل عليه لن يخشى حبراً على ورق ... فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا ... وتذكّروا أننا صناع الحياة وصنّاع مجدٍ وتاريخ ، نحن شباب وشابات هذه الأمة .... قادتها مستقبلاً ...

ومن وصايا النبي الأكرم لكم :" يا غلام ... إني أعملك كلمات ... احفظ الله يحفظك ... احفظ الله تجده تجاهك ... إذا سألت فاسأل الله ... وإذا استعنت فاستعن بالله ... واعلم لو أن الامة اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك ، واعلم لو أن الأمة اجتمعت على أن يضرّوك بشيء لن يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ... رفعت الاقلام ... وجفت الصُّحف.. "

بقلم : رهف المعايطه