تمايزت النجوم في شررها ، و دقّت الاقدار على طبول الزمان ، و بدأت الثواني تنحدر على خيوط الليل برقصات متناغمة ، و راحت العصافير تلوح بالرايات و اعلام الزينة ، و استنشقت التربة رائحة الامطار ، وبدأت الاحجار تلمع في هدوء الليل ، فقد مضى وقت طويل لم يأتِ به المطر ، لكنه جاء الان بطعم الخريف ، و كل هذا لأجلي ، و الكل يعزف بصمت و ينتظر مني ردة الفعل
هكذا كان الثامن و العشرون من تشرين الاول ذكرى ميلادي ، ميلادي أنا يا حبيبتي ، فتقول الاقدار أنه بمثل هذا اليوم انسلخت روحي من الازل ، و صُنفت في عداد الموجودات و بدأت اقلام الزمان بالكتابة على كتاب عمري ، و بدأت رحى الايام تلوك مخلوقاً جديداً
ذكراي هذه ليست كأي ذكرى بالتأكيد - و انتِ خير من يعلم - فأنا اليوم في حالة فائقة الوجود ، أقرأ لون الفجر بكل فصاحة، وأٌغرد مع العصافير بكل تناغم ، و أتلاطم مع أمواج البحار ، و أتبعثر مع الغمام ، و أتضآل كل يوم مع الشمس اذا حان الغروب و راحت أقواسها تفلت من حافة الافق واحدة تلو الاخرى ، عيدي هذا هو " سوبر ذكرى " إن صح التعبير
قبل اليوم يا حبيبتي كانت حقيبة أشواقي فارغة تماماً ، و ذكرياتي مع الليل كانت عديمة الصور ، و لم تكن كلمات نزار قباني تعني لي شيئاً من الرهبانية و التطرف الروحي ، و لم تعنِ لي الرؤى سوى خيالات يصنعها العقل الباطن ، ولم أٌقرأ كتب المجانين ، و لم أمضِ على أي وثيقة هذيان ، و لم أجرب أن أزرع وروداً من الدخان ، ولم أقف على أي مفترق زمان ... كنت غريباً في عالم الارواح بلا هوية أو سبب يبرر الوجود
لم يكن حرف الواو بداية ابجدية الانوثة ، ولم يكن حرف النون آخرها ، و لم تكن أسماء النساء تُظهر لي أي شيء من الموسيقية ، فلم أكن أفقه أي شيء في رنّات لفظها ، و خفقان موجاتها الصوتية ، و انسياب حروفها مثل العطر على معازف الشعراء ، لم أكن اعلم أن مجرد لفظ اسم فتاة هو أغنية طربية من الطراز الرفيع ، و تكون صلاةً اذا كانت تلك الفتاة هي الحبيبة ، لقد كنت أُميّ النساء ، لا أقرأ ولا أكتب
كانت روحي تطل من بين ستائر الازل ، فلا تجد ذلك الضجيج و التزاحم العاطفي الذي ترنو اليه المخلوقات الابدية ، فتنكمش تحت حر الماديات المدقعة ، و تشعر مثل الغريب في صحراء لا نهائية الاطراف ، فتعود حيث كانت ، و تقول لمن يسألها : لم أجد أي حي
قبلكِ يا حبيبتي كنت في حقبة ما قبل الوجود ، و كانت الاقدار تهبط من السماء فلا تجد عنواناً محدد تضع به رسائلي ، و كانت النجوم تتسآل فيمها بينها كلما رأتني ، و كانت هويتي لا تزال بلا ختمٍ يجيز لي التنفس ، و كان اسمي ضائع تماماً بين الحروف ، و كان يختبء بين أصابعي غربان توشك أن تقتلني بهدير ضوء الشمس أذا لم أكتشف مملكتي و بسرعة
لكن الان ...
أُقر أنني لم أنطق الشعر الا في حضرة الحب ، و أنني لم أنظر الى القمر إلا كي أراكِ به ، و أصبحت من روّاد الليل ، و تكللت روحي بالحزن بمراسم حضرها كل الكون ، و أصبحت كائن عشقي ، و ذكرى نيسانية ، و ضجيج عاطفي ، و نوافير رومنسية ، حصلت على جنسية كل الزهور ، و تعلمت ثقافة كل الفراشات ، و حصلت على جواز سفر أبدي المفعول يتيح لي السفر الى ما بعد السماء في أي وقت ، كل ذلك عندما أحببتكِ ... عندما أحببتكِ أنتِ
عشت في كل ثانية مليون سنة ، و نطقت في كل حرف اكثر من لغة ، و رأيت في كل نظرة الاتجاهات الاربعه ، دخلت في مراحل غير الاستيقاظ و النوم ، و تنفست نوعاً جديداً من الاكسجين ، لقد أصبحت يا حبيبتي أشياء روحانية لا تُعد ولا تُحصى .. ولكِ الفضل .. و لحبكِ الفضل
متزمت العقل انا ، كرهت عقلي ، و أعلنت نهاية سلطته على مملكتي ، و أنهيت عصراً كاملاً من التطرف الفكري ، فما بالامر أنني حين رأيتكِ ، حدث ما يلي : و وثائقي المحكمة البرهان نقضتِها بنظرة واحدة ، وعباءة المنطق أخلعتِنيها بلفتة واحدة ، و رجولتي الموصدة الكبر ،بعثرتِها بشزرة واحدة ، و سنابل قلبي الضمأى رويتها برمشة واحدة ، و طفولتي التائهة الوطن أرّختِها بنصف بسمة
أُقر يا حبيبتي أنكِ الاولى بكل تجرّد ، لا أعلم كيف ستكون رواية القدر ، و لا أعلم في أي وادٍ ستنتهي كرة الثلج المتدحرجة ، ولا أعلم ماذا كان مني ، و أجهل بكل ما للكلمة من معنى ، ما سيكون و لكني أعلم تماما ما يلي :
أن كل حواري الجنة ، و نساء الارض ، و السحر المتلألئ على سطح البحار ، و النشوة المتفجرة من رائحة الفجر ، كل استثناءٍ جمالي في هذا الكون ، لا يساوي فراشة على خديكِ ، أو نسمة هواء تترقرق على وجنتيكِ ، أو عصفوراً راح يرفرف إذ غرّدت شفتيكِ ، أو قطرة أُنوثة سقطت تحت قدميكِ ، أو حتى فتات طفولةٍ ، تناثر على حاجبيكِ
مهما كانت رواية القدر يا حبيبتي ، فأنا راضٍ عن مرتبة الشرف الملائكية التي وصلتها في كنف حبكِ ، وأنا راضٍ بوسام فينوس ، بأن أحضى على قدسية حبكِ ، مهما تمزقت ، و مهما قُتلت ، و مهما تشردت ، جنة العشق في انتظارنا في عالم الابد ، فارضي مثلي ، و كوني بقدر هالة الحب هذه ، ولا تتأففي بالدموع ، بل صلي الدموع ، لأن بريقها يوضع في ميزان حسنات العشاق يوم القيامة
مهما كانت رواية القدر ، كما كنتِ الاولى ستكونين الأخيرة ، ولن أتهجأ أي شِعر آخر بعد نيسان ، و لن أنشر كتاباتي إلا في حقول نيسان ، ولن أشهق لرؤية إمراة إلا أنتِ ، و لن أُصبح شلالات حزن إلا شوقاً إليكِ ، ولن أسمح للساني أن ينطق اسم فتاة إلا و يسبقه اسمكِ ،
سوف انتهي بلا شك ، و أُحمل على أعناق الزمان ، و سيُقال يوماً : كان هنا إنسان ، لكن سيبقى حبكِ موطناً لروحي في الممالك العلوية
يا نيساني ، و وردتي الجورية ، و أحلامي الوردية ، وحوريتي الفردوسية ، و روايتي الغرامية ، و أُرجوحتي المخملية ، و ألماستي السليمانية ، و محارتي البحرية ،
يا انتهاء الرومنسية ، يا طفلتي الأبدية ، يا أجمل عيدية ....
كل عام و أنتِ بخير ....
طفل عمره نيسان واحد
مواقع النشر (المفضلة)