زيرو و موحَّد
أنا أكره هذا الإنقسام الطبقي - التاريخي- بين صنفي الطحين (الزيرو و الموحّد)،لإن في ذاكرتي قطوف من الحرمان - مغمّسة ببرد الشتاء وقَطْر اللذة - لا زالت تثقلُ معرّش طفولتي..
كنت كلما داهمتني شهوة العوّامة في إحدى الأمسيات الباردة ،واهتز جذع شجرة على نافذة غرفتنا الوحيدة منتشياً لرشّة مطر خجولة ، أتبع أمي مثل قط لحوح طالباً منها طرحة عوامة عاجلة تتصدر سهرة المساء . أمسك بطرف ثوبها ،أعرقل مسيرها ،أتظاهر بالسقوط أمامها ، أصادر سجادة صلاتها ، ثم أمطرها بعبارات لا تنتهي من الإلحاح المتتابع يا يمّه.. يا يمّه.. يا يمّه.. يا يمّه.. ساويلنا عوّامة وأشير لها بيدي الصغيرتين ، فقط صحن صغير ، فتشرح لي بأن العوّامة بدها طحين زيرو .
لم أكن أعرف أن هذا الانقسام العظيم بين صنفي الطحين يقف حائلاً أمام رغبتي الجامحة بتذوق العوامة ،لذا كنت أشير الى الكيس المركون في زاوية المطبخ مثل رجل متكرّش سائلاً: وهاظ شو ؟ ، فتقول: هاظ موحّد !!!..فتراني أفقد أعصابي وأصعّد الموقف بأن أنفض حفّايتي من قدمي بشكل عامودي ، فترتفع كل فردة عدة أمتار الى أعلى وتسقط قربي أو على رأسي فيزيد بكائي و جعيري ، الشيء الذي كان يفقد أمي أعصابها أيضاَ فأسمعها تطلب من أحد الأخوة المتعاونين: ( اقضبولي اياه) ..فأختار إحدى الحسنيين: إما الهرب وإما السكوت..
بالفعل كان إقناع الوالدة (بعجنة عوامة) آنذاك أشبه بطلب قرض بنكي ، فيه من طول الاجراءات والخصميات والتشويق والمنّة وإحضار الكفلاء اللازمين ما يفقدك لذة المطلوب..كل ذلك بسبب (الزيرو) طبعاً.
*** لقد أدركت بوقت متأخر من العمر أن الطحين (الموحّد) يصلح للخبز العادي فقط ،بينما (الزيرو) خاص بالخبز المحسّن والحلويات و المعجّنات الأخرى والكعك ، بسبب نكهته وجودته وسرعة نضوجه ،كما فهمت أيضاَ ان الطحين (الموحّد) صديق الغلابى المكتفين بلقمة العيش الحافية، بينما (الزيرو) صديق الأغنياء الباحثين عن اللقمة الحلوة المرفّهة...
***
قبل أسابيع اتسع الفارق كثيرا بين سعر طحين الزيرو وسعر الموحد..مما يعني أن الفارق الطبقي سيتسع بين الناس ، وسيصبح هناك ناس (زيرو): أصحاب النفوذ ، والوظائف العليا،واللصوص ، وتجار الدماء . و ناس (موحّد): الفقراء و أصحاب الوظائف الدنيا ،و الدخل المحدود، والحيل المهدود ...
و(يا خوفي) من تمدد الصنف الثالث المنسي : أناس (الطحين المرّ) ، الذين طحنوا طويلاً بفقرهم وصمتهم وجوعهم وينضجون الآن بنار التهميش..
منقول عن الكاتب الكبير احمد حسن الزعبي
مواقع النشر (المفضلة)