الإنتاجية في الوطن العربي
مفهوم الإنتاجية:
يقصد ب( الإنتاج) لغوياَ ، ما تصنعه الأمة من ثروات وما تستخرجه من باطن الأرض أما المقصود ب( الإنتاجية) فهو تلك الفاعلية في استثمار الموارد واستخدامها0 أما مستوى الإنتاجية فيحدد على أساس من معيار كفاءة الفاعلية0 ولكن هذا لا يعني أن اتفاقاَ على تحديد مفهوم الإنتاجية حاصل لدى الباحثين لهذا المفهوم ، وهم كثر وينتمون إلى اختصاصات مختلفة ، وداخل الاختصاص الواحد توجد أبحاثهم أيديولوجيات متعارضة0 إلا أننا قد نجد مرتكزات لهذا المفهوم لدى مختلف المهتمين به تتعلق بأهمية ارتفاع معدلات الزيادة في الإنتاج ،وخفض التكاليف ، وتقليص الهدر في الموارد وفي الجهد البشري إلى أدنى حد ممكن0 وفي مجال الجهد البشري يشار دوماَ إلى عدد من العوامل الهامة ذات العلاقة بدوافع العاملين والمديرين ، والكفاية في التصرف والإشراف00000
أما الخلاف في تحديد هذا المفهوم فقد يعود إلى ما ينطوي عليه من عناصر اقتصادية وإلى طريقة التعبير الكمي عن هذه العتاصر0
يؤكد الاقتصاديون ذوو النزعة الرأسمالية على تعريف الإنتاجية من خلال العلاقة بين مدخلات النشاط الاقتصادي ومخرجاته، ويستخرجون الإنتاجية بوساطة عملية
حسابية تهدف إلى تعريفها بقياس مدى كفاية الوحدة الاقتصادية بالنسبة التالية:
المخرجات
______________________________
( العمل + المواد + رأس المال )
:بحيث تشكل عناصر مقام الكسر معاَ مدخلات النشاط الاقتصادي ويلجئون من ناحية ثانية إلى تعريف الإنتاجية كونها ( الإنتاجية الكلية للعمل ) التي هي بين الإنتاج والعمل الكلي المستخدم فيه وفق القاعدة التالية :
القيمة النقدية للأرباح ( السعر × الإنتاج)
الإنتاجية الكلية للعمل= ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأجر القياسي للعامل في الساعة
ويميز آخرون بين الإنتاجية الكلية للعمل الذي تمثله علاقة كمية الإنتاج بالعمل الإنساني المبذول فيه ، وبين إنتاجية العمل الذي تمثله كمية الإنتاج والعمل الكلي المبذول ( آي العمل الإنساني مضافا إليه العمل الذي يوجد في المعدات والآلات والمواد الخام)0
إلا أن مفهوم الإنتاجية في كلتا الحالتين لا يبعد عن أهمية العنصر البشري ودوره في رفع المستوى الفني للإنتاج وفي البحث عن أسباب وأساليب تضمن رفع تنظيم العمل وفي تحسين الأداء الوظيفي للفرد حينما كان موقعه في العمل الإنتاجي00
وموضوع الإنتاجية في عصرنا هذا مدار اهتمام الاقتصاديين وعلماء الاجتماع ، علم النفس ، والسياسيين 0 ويعود ذلك ، بصورة خاصة ، إلى تلك الصورة القاتمة التي تثير مكامن الخوف والقلق والعالم يودع قرناَ من عمر الحياة على الأرض ويستعد لاستقبال قرن جديد وتتلخص هذه الصورة ب:
<< الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقومية والجنسية ، التي لم تعد محتملة حتى وإن لم يزد خطرها 0 مئات الملايين من البشر يعيشون تحت تهديد المجاعة المباشرة ، وملايين أخرى يخضعون للعذاب الجسدي والفكري وهم أشد بؤساَ من الآخرين 000 إننا مطالبون ليس فقط بإعادة قلب قوى الإنتاج والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية، بل بإعادة قلب علاقاتنا مع النوع ، ومع المنظومة البيئية بأكملها>>(1)0
ونظرا لدور العنصر البشري في الإنتاجية وأهميته يجدر بنا أن نلجأ إلى تحديد مفهوم الشخصية المنتجة0
مفهوم الشخصية المنتجة:
الشخصية في اللغة ، صفات تميز الشخص من غيره 0 والمنتجة قد لا تكون هكذا لغوياَ وإنما الأصح المنتاجة أي الكثيرة الإنتاج 00
وفي كتب علم النفس تعريفات للشخصية تختلف عن بعضها درجات متقاربة، نأخذ منها التعريف الوارد في قاموس علم النفس وهو:
<<الشخصية هي تنظيم متكامل ودينامي للخصائص الجسيمة والخصائص العقلية المعرفية والخصائص المعنوية والخصائص الانفعالية والاجتماعية، ويتضح هذا التنظيم في تفاعل الفرد مع الأشخاص الآخرين وفي الحياة الاجتماعية المبنية على الأخذ والعطاء>>.
وحسب هذا التعريف فإن الشخصية تتجاوز المظاهر الخارجية للسلوك البشري لتشمل جماع صفات الفرد وأفكاره واستجاباته الداخلية.
وتبعاَ لهذا التعريف فإن للشخصية صفات تميزها ولكنها ليست ثابتة ساكنة وإنما هي حركة وتغير مستمرين وإن بدت من خلالها هوية الشخص على أنها استمرار الماضي في الحاضر وفي نظر الآخرين أيضاَ. إلا أن هذا الثبات كما رأينا ما هو إلا الإثبات نسبي. ويبدو بوضوح أن تغير الشخصية يبدأ منذ السنوات الأولى لحياة الفرد إلا أن سرعة هذه الحركة تختلف في مراحله من مراحل النمو عن غيرها لكنها لا تتوقف. وإن الحركة والتغير مرتبطان بعوامل كثيرة منها ما يتعلق بحوادث النمو ومنها ما له علاقة بالمحيط. ولكن هذه الحركة والتغير لا تعني استبدال شخصية بأخرى وإنما هي لصيقة بالثبات النسبي للشخصية ولا تتعارض معه. يولد الإنسان مزوداَ بقدرات واستعدادات كامنة قابلة للنمو والتشكل ولكن العوامل الحاسمة في ذلك إنما تعود إلى جملة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يوجد منها ويتفاعل معها. وحينما تكون المقارنة بين محتوى الحضارة ومحتوى الشخصية تبدو العلاقة بينهما على أوضح ما يكون إذ أن سلوك الفرد واستجاباته إزاء المؤثرات المختلفة يكاد يكون معادلا لنمط الحضارة التي ينتمي إليها من
حيث الخصائص والعلاقات بشكل متكامل . مما يدعونا للتعبير عن ذلك بأن الشخصية بصورة ما تفصح عن ثقافة معينة وبصور تتعدد بتعدد الأفراد الذين ينتمون لهذه الثقافة.
وإضافة إلى خاصتي الثبات النسبي ( الهوية) والتغير في الشخصية فإن ثمة خاصة أخرى ندعوها ( وحدة الشخصية). فعلى الرغم من تجلي الشخصية بصور تختلف إحداها عن الأخرى قليلا أو كثيرا سواء من حيث المظهر الذاتي ام من حيث المظهر الموضوعي الا انها تظل بنية تنظيمها الداخلي وتتمثل ابرز معالمها في النظرة الى العالم والتعرض له والانضواء فيه. وتتمثل هذه الوحدة في ( وحدة الأنا – العالم) وهي في وحدتها هذه تنطوي على جانب اساسي يتمثل في الوعي الذي يرشد سلوكها.
والشخصية في تفاعلها القائم بينها وبين البيئة تنتظم ككل في اسلوب يشكل ما يمكن ان ندعوه (اتجاه الشخص). هذاالاتجاه يتصف بنوع من الثبات يصعب تبديله تبديلا كاملا.وهو الذي يحدد النمط الذي يتخذه السلوك ويعطيه طابعا مميزا.
. من هنا كان لجوء مدارس علم النفس الى تصنيف الناس في انماط يتميز كل منها بطابع او سمات معينة يقربنا هذا من خلع سمة على الشخصية تتعلق بالإنتاجية بحيث نصنف بعضها في خانة الشخصية المنتجة ، أي الشخصية القادرة على الإنتاج بأوسع معانية لا الاقتصار على الإنتاج المادي فحسب. فالشخصية المنتجة –بحسب
اريك فروم – تتميز بالمقدرة على استخدام قواها العقلية والجسمية وتحقيق امكاناتها الكامنة فيها . ويتصف صاحبها بانه ذو تفكير مستقل يحترم رفاقه ونفسه لا يعاني الكبت او القلق ويستطيع ان يحقق ذاته ويستمتع بحياته.(2)
مظاهر ضعف الإنتاجية العربية وتجلياتها:
تعاني بلدان ما يسمى بالعالم الثالث ومنها بطبيعة الحال بلدان الوطن العربي من تدني مستوى الإنتاجية على الرغم من أن بعض هذه البلدان – العربية – لا تعاني من الموارد والإمكانات، فكل الدراسات والأبحاث والإحصاءات تؤكد على توافر الإمكانات وعلى أن قدرة العرب في مجاراة العصر والإسهام في بناء الحضارة المعاصرة ممكنة، وأسباب ذلك متوافرة سواء من حيث امتلاك الأرض والمال او من حيث وجود جحافل من اليد الماهرة الخبيرة واليد القادرة على العمل في الزراعة والصناعة، لكن الملاحظ والثابت غير ذلك:
1 – رغما عن وجود الموارد فإنها لا تستغل بصورة ملائمة لأنها تعاني من سوء الاستخدام بل ويعاني بعضها من عدم الاستخدام أساسا.
2 – الظلم الاجتماعي يعرقل الجهود التي تهدف إلى تحسين الزراعة بصورة خاصة، ويؤدي إلى إنتاجية منخفضة من جانب المزارعين الصغار إما الملاك الكبار والمتنفذون فيحتكرون الانتفاع بخدمات الدولة في الإرشاد الزراعي والقروض.
3 – يتجه الإنتاج نحو المحاصيل الترفيه وإهمال المحاصيل الزراعية الضرورية. والاتجاه نحو إنتاج ما هو قابل للتصدير . ( فبينما كانت مالي تتعرض للجفاف زيدت المساحة المزروعة بمحصولي التصدير لديها وهما الفول السوداني والقطن بحوالي 50% وبما يزيد على 100% على الترتيب في الفترة ما بين
1965 – 1972 .(3) وتقوم الشركات الأوربية باستيراد طعام الفقراء من الدول الفقيرة ( الذرة الصفراء ، فول الصويا ، المنيهوت) لتسمين الماشية باعتبار هذه المحاصيل علفا رخيصا.(4)
4 – تدني الكفاية في إدارة عمليات التنمية وتنفيذها فبلدان العالم المتخلف تواجه منذ بدايات استقلالها مهما اقتصادية واجتماعية كبيرة جدا. ويطرح عاى هذه البلدان مهمة الانتقال من حالة التخلف والتبعية الى حالة التحرر والكفاية الإنتاجية وهذا يتطلب منها تطوير القاعدة الإنتاجية وتحسين كفاية الكوادر البشرية من إداريين وعمال وخبراء ، وتجاوز القيم التي ارتبطت تاريخيا بحالة التخلف القديم والتردي المزمن. ولم يكن أمام هذه البلدان سوى أن تنيط بالدولة مهمة القيام بالدور القائد أو المهيمن على مختلف الأنشطة الاقتصادية
والاجتماعية لدفع عجلة التنمية مع ما في ذلك من مخاطرة ومكابرة حيث أن التعرض صارخ بين عظم المهام الملقاة على كاهل النسق السياسي في هذه البلدان وضالة القدرات المتوافرة . فيناط بالدولة في معظم البلدان المتخلفة ومنها بلدان الوطن العربي، إضافة لما هو مناط بالدولة التقليدية من تقديم الخدمات الاجتماعية مثل التعليم ومحو الأمية وإقامة المرافق العامة وإدارتها من نقل ومواصلات ورعاية صحية –إقامة المصانع والمنشآت وتمويل الزراعة إلى جانب دورها في صياغة العقائد السياسية والترويج لها ,وإقامة دولة حديثة تتجاوز ما هو سائد من نظم عشائرية وقبلية ورواسب إقليمية وطائفية (5).
ويجد هذا النسق السياسي المتنطع لحمل هذه الأعباء نفسه أمام أفكار تنموية يغري الباحثين في الترويج لهل ,ويسوغها على أنها نوع من البديهيان والمقصود بذلك ما يتصف به هذا النسق من تمركز السلطات والاستبداد وعمله على سيادة ثقافة تتصف بالخنوع والطابع العائلي للنظام السياسي, وطغيان الانفعال والعنف في معالجة المشكلات الطارئة ، مقابل النظم السياسية المتقدمة حيث السيادة للقانون ودولة المؤسسات وثقافة المشاركة والاحتكام لمقتضيات التفكير الوقائعي ونهاية عصر الأيديولوجيات.(6)
5 – افتقار البرجوازية الطفيلية للحد الأدنى من المستويات الخلقية, فحيث انه لم تتبلور في المجتمعات المتخلفة البنى الطبقية تبدو البورجوازية الناشئة ذات طبيعة خاصة بسبب من تطفلها على جسد التنمية وبسبب من ظروف تشكيلها مما أدى إلى عدم امتلاكها للحد الأدنى من الأخلاق الذي لا بد منه في النهوض بالعملية التنموية مما أدى إلى ضعف الإنتاجية، ذلك أن هذه الطبقة النهمة للثروة والسلطة لا تعرف الشبع ولا تمتلك بعد النظر المطلوب على المستوى الاجتماعي ، فهي تطوع العام باستمرار لخدمة مصالحها الضيقة والآنية . وتتصف هذه الطبقة الهشة بسرعة قابليتها للفساد والإفساد . وسرعان ما تتحول هذه البورجوازية إلى بورجوازية دولة مبتعدة عن الواقع الثوري الذي تدعيه في بدايات تسلقها وتسللها وييسر لها هذا التمادي في إخفاء العيوب والتستر على الأخطاء والهروب من الاعتراف بها تحت غبار إعلامي تثيره على شكل زوابع مزوقة بشعارات التقدم والتصدي والصمود أمام الهجمة الإمبريالية ..هذا النمط السلوكي – مع الأسف – يتفشى حتى يصبح هو السائد عند الحكام والمحكومين وعند المثقفين وغيرهم..
وكثيرا ما يلجأ هذا النسق عند اكتشاف عوراته – وما أكثرها – إلى رد النتائج إلى أسباب خارجية متنصلا من المسؤولية. وباختصار فإن أهم ما يميز هكذا تفكير متخلف أنه يتصف بما ينطوي عليه نمط التفكير ( المانيلوفي) من أحلام ضخمة وفعالية منعدمة .(7)
6—نزيف الأدمغة أو ما يعرف بهجرة العقول : سيل الهجرة من الدول النامية بعامة والدول العربية بخاصة إلى الدول المتقدمة صناعياَ وتكنولوجياَ بشك أحد مظاهر الخلل الديمغرافي في العالم ، هذا من حيث الكم أما من حيث الكيف فإن النسبة التي تكاد تصل إلى 100% من هؤلاء المهاجرين فهم من جيل الشباب الذين يفقرون بلدانهم من قوة العمل اللازمة لعمليات التنمية المختلفة وبين هؤلاء
ترتفع نسبة أصحاب الكفاءات العلمية ومعظم هؤلاء من الأطباء والمهندسين والمختصين بالعلوم الطبيعية ومن ذوي المهن الطبية والاختصاصات بالعلوم الإنسانية . ومعظمهم يهاجر إلى الولايات المتحدة أولاَ فكندا فالبلدان الأوربية..
وفي إحدى الإحصائيات عن مساهمة الدول النامية من أطباء كل من الولايات المتحدة وكندا يذكر أن هذه المساهمة تمثلت ب 58% من الأطباء و 42% من العلماء والمندسين (8). وما يزال سيل الهجرة مستمراَ وإذا حاولنا تحري أسباب ذلك فإننا واجدوه في :
1- العوامل الاقتصادية المتردية للبلدان العربية.
2- عوامل علمية تتعلق باعتماد البلدان العربية أساليب تعليمية قديمة لا تساعد عل ى الاستفادة من الطاقات الشابة والكفاءات العلمية.
3- معاناة المثقفين بعامة وأصحاب الكفاءات المتخصصة بخاصة من سوء التقدير لمواهبهم وقدراتهم وافتقار بلدانهم للأجهزة والمخابر والمعامل ومراكز الأبحاث التي يستطيعون بوساطتها إبراز قدراتهم وتنميتها وتطويرها.
4- عدم احترام الكفاءات المتوسطة وعدم إعطائها حقها في مجال الحياة الاجتماعية فيشعر المثقف أو المختص أنه غريب في بلده.
5- ضعف الطلب في معظم بلدان الوطن العربي –إن لم يكن نقل كلها – على نتائج البحوث. بينما نجد أن بعض مراكز الأبحاث وأجهزتها تجد ضالتها في استجابة الطلب الخارجي لها.
على سبيل المثال << تعاقدت بعض الجامعات والمؤسسات الأمريكية مع الأجهزة العلمية المصرية على 253 مشروعا بحثيا بخلاف (9) مشروعات بحثية تعاقدت عليها وزارة الزراعة مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية خصص لها 93 مليون جنيه خلال سنوات أربع كما ورد في محضر اجتماع شعبة البحث العلمي 16/9/1979 .
6- هناك هجرة داخل الوطن العربي من البلدان غير النفطية إلى بلدان النفط مما أدى إلى خلل في توزيع الكفاءات داخل الوطن العربي من جهة ,وإلى عدم الاستفادة المطلوبة من هذه الكفاءات في البلدان الجاذبة في اختصاصاتها إلا فيما نذر . وقد أدى ذلك إلى نتيجتين سلبيتين:
النتيجة الأولى :خلل و عدم استقرار في وضع هذه التي تتطلع باستمرار للفرصة المواتية للهجرة إلى بلدان الجذب
النتيجة الثانية : عدم احترام هذه الكفاءات في بلدان الجذب ومعاملتها كأنها كفاءات ثانوية إزاء استخدام العمالة الوافدة من البلدان المتقدمة
7- إهمال الإنسان وتحية دوره من هدف التنمية إلى أداة من أدوات العملية الاقتصادية ففي تقرير التنمية العالمي الذي وزعه برنامج الأمم المتحدة للتنمية تحت عنوان ( تقرير التنمية البشرية السابع ) لعام 1996 ثمة ملاحظات هامة تشير إلى أن الفوارق الاقتصادية بين الدول الصناعية و النامية تنتقل من حالة اللامساواة إلى الحالة الإنسانية (10)
وثمة معلومات في ذلك التقرير تش إلى آن العمر المتوسط في الوطن العربي قد ارتفع من 45 إلى 65 سنة لكن نصف سكانة ما زالو محرومين من الماء النقي ومع تضاعف معدل تعليم الراشدين هناك ستون مليونا من الأميين ومع أن النمو الزراعي بلغ 5% إلا أن 73 مليونا لا يزالون تحت حد الفقر وعشرة ملايين لا يحصلون على القوت الضروري, ومع كل الخدمات الصحية فإن معدل وفيات مت هم دون الخامسة أكبر بأربع مرات من البلدان الصناعية .
8 – غياب التعاون العربي والتكامل في المجال التنموي :نمو النزعة القطرية رسوخ الدولة القطرية غيب كل مشاريع التكامل والوحدة في المجال الاقتصادي فرغما عن كل الاتفاقات والمعاهدات حول إقامة تكامل اقتصادي أو اتحاد اقتصادي أو سوق عربية مشتركة فإن تنفيذ ذلك يكاد لا يذكر في عصر يتجه فيه الاقتصاد العالمي نحو قيام التكتلات الإقليمية الواسعة
وليس خافيا ما يشكل ذلك من خطر على مستقبل الوطن العربي من زيادة التشرذم ومن مخاطر الوقوع في شرك السياسات الدولية الرامية
إلى تزيف وتزوير كل مفاهيم الوحدة والعروبة.... وأقرب مثال على هذه الأخطار المحدقة مشروع الرق أوسطية الذي يريد منه أصحابه وحوار يوه أن يكون بديلاَ عن كل المشاريع الوحدوية الأخرى.
الإنتاجية وخيرات العلم والتصنيع:
التزمت الأقطار العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال—شأنها في ذلك شأن معظم البلدان التي تحررت بعد الحرب العالمية الثانية من الاستعمار- بخيار العلم والتصنيع. واتخذت هذا الالتزام شكل إفساح المجال أمام الناشئة في الوطن العربي للولوج إلى صفوف الدراسة في المدارس التي أخذت بالانتشار في الأحياء المدينية والأرياف وفي مضارب البدو. لكن ذلك لم ينطلق من سياسات واحدة أو ذات توجهات متشابهة , فإذ تبنت بعض هذه الأقطار مجانية التعليم وإلزاميته في وقت
مبكر فإن بلداناَ أخرى تأخرت في تبني ذلك.
واتخذت القرارات سواء على المستوى القومي من خلال المنظمات والمجالس العربية في نطاق جامعة الدول العربية للتخلص من الأمية ورفع سن الالتزام وتبني التعليم الأساسي من خلال مفهومي( التربية والصفة الاجتماعية).
وقد تبنت استراتيجية تطوير التربية في البلاد العربية وأكدت على تطوير محتوى التربية المدرسية وطرقها عن طريق ( تزييف المدارس التقليدية)
على أن يكون ذلك جزءاَ متكاملاَ في التنمية الريفية الشاملة التي ترتكز على الشمول والتكامل في المشروعات, وتنظيم التربية على أساس مرحلي يوفق
بين جوانب الاستثمار في التربية وجوانب الاستهلاك والاعتماد في التنمية على أبناء الريف ودور التعليم الأساسي فيها.
وعلى الغم من حماسة وزارات التربية في الأقطار العربية لما جاء في استراتيجية تطوير التربية العربية حول رفع سن الإلزام ( عام 1979)إلا أن سن الإلزام لا زال مختلفا بين دولة وأخرى إضافة إلى أن بعض الدول العربية لم تلزم نفسها بتحديد ذلك(!).
وإذ يتأكد يومياَ أن لا تقدم لأمة من الأمم وما من ثقافة تدوم بدون العلم تبرز أهمية البحث والتطوير العلمي. ويطهر في هذه المجال القصور واضحاَ على مستوى الأقطار العربية إذ أن ما يخصص من إجمالي إنتاجها السنوي للبحث والتطوير من 3,. %إلى 9,. % وهذا يعادل 1000 مليون دولار في السنة أي بمعدل 4 دولارات للفرد الواحد وأن منظمات البحث العربية تربو على 700 منظمة توظف حوالي (30) ألف عالم ومهندس للبحث توظيفاَ كاملاَ وبالمقارنة مع بلدان أخرى
نجد أن مستوى التمويل العربي في هذا المجال منخفض بمقاييس العالم الثالث أذ أن الأقطار المتقدمة فيه تخصص 1% من مجمل دخلها القومي لذلك. وهو شديد الانخفاض بالنسبة للبلدان الصناعية. وإن منجزات البحث والتطوير في الأقطار العربية تكاد تكون ذات طبيعة تطبيقية حصراَ
وتبدو الصورة إذا عرفنا أن حصة العلوم الاجتماعية في أقل من 10% .
إضافة إلى أنه ( ليست السلامة والتلوث والرفاه البشري والصحة من مظاهر اهتمام الحكومات المحلية أو المركزية في الوطن العربي. هذا الحقل الذي يحتاج إلى عناية متزايدة , لأن التقانة في أيد مهملة سلاح خطير)(11).
وإذ يشهد العالم ثورات متزامنة في مجال الحاسوب وتقنيات الاتصال والإلكترونيات
الدقيقة فإن الوطن العربي في وضع لا يحسد عليه, حيث أن استخدام الحاسب لازال قاصراَ فحتى الآن لا يرف الحاصل على الشهادة الثانوية عنه إلا اسمه الأجنبي . وفي مجال البرمجة والمعلومات لا نجد لنا مكاناَ على طاولة محتكري المعلومات التي يصدرونها بالطريقة التي تخدم مصالحهم. فأجهزة الحاسب , والتلفاز, آلة الهاتف الحديثة , الراديو , التلكس , تكاد تكون حكراَ كاملاَ على الولايات المتحدة واليابان وفرنسا وهولندا وبريطانيا وألمانيا. وفي مجال الإنتاج الإلكتروني العلمي لأجهزة الاتصال تسيطر على 75 % منها شركات أمريكية ,
حيث أن الدخل الإجمالي لشركة الاتصالات الأمريكية ( AT&T )عام 1977 بلع 26 بليون دولار أي أكثر من الدخل الوطني لمائة وثماني عشرة دولة من دول الأمم المتحدة.
وفي مجال الإلكترونيات الدقيقة فإن هذه التقنية التي دخلت حياتنا من خلال الغسالة والراديو والتلفاز فما زلنا نعاني قصوراَ واضحاَ في معرفتها ودورها في التخفيف من حجم الآلة الكبيرة من التلوث.
وهكذا يبدو لدينا عجز في قدرتنا على دمج العلم دمجاَ عضوياَ في كياننا القومي .
لأنه مهما اصطنع الاقتباس لنفسه من وسائل ( لن يتحقق دون وجود هياكل علمية وإنتاجية راسخة لدى المقتبس تتيح له فرصة حقيقية للاستفادة منه (12).وليس ذلك فحسب , فقد درجت البلدان العربية على استيراد تكنولوجية جاهزة لا تمتلك المرونة من أجل تكيفها
لتكون ملائمة لظروفها. فالتكنولوجيا قبل أن تكون سلعة للتجارة الدولية هي أولاَ معرفة وتنظيم. فالمعرفة والكفاءة الإدارية وطاقة الإبداع تشكل معا ركائز كل تطور تكنولوجي , فليست الآلة بحد ذاتها هي التي تسمح بتراكم الإنتاج , وبالتالي رفعة, بل هي تنظيم أفضل لشروط الإنتاج والإدخال الناجح لطرائق تقنية تزيد في أرباح الإنتاجية الناجمة عن التطور في التنظيم(13).
لكن النتائج التي وصلت إليها مشاريع التنمية والتطور السريع في توسع التعليم وتخريج الدفعات الكبيرة من حملة الشهادات ( بخاصة بعد التوسع في التعليم الجامعي الذي لم يرتكز على ربط الجامعة بالمجتمع إلا من نواحي شكلية بحيث تكاد تكون الأبحاث العلمية في مجالات العلوم الأساسية والإنسانية من الندرة بحيث لا تفي كثيرا بحاجات التطور والتقدم ) فهذا التوسع واستيراد التكنولوجيا لم يسهما في رفع الإنتاجية , بل إن الأمر على العكس من ذلك , إذ شهدت الأقطار العربية ضعفاَ واضحا في إنتاجيتها بالقياس إلى البلدان الصناعية. فقد انخفضت إنتاجية العمل في الوطن العربي 42% خلال فترة عشرين سنة نسبة إلى الولايات المتحدة(14).
( والعلم قد يكتسب والمعرفة التكنولوجية قد يمكن حيازتها, لكن ضعف القدرة على الإنتاج قد يحول دون الاستفادة من هذا العلم ومن هذه المعرفة التكنولوجية الممتازة,فبذرة التخلف -- على الرغم من كل شيء – ذات وظيفة رهيبة , تحول دون أن يكون لكل البريق الذي صاحب الإنجازات التحديثية ( تحديث الأجهزة العسكرية , إنشاء الجامعات, استخدام الخبراء والمستشارين) أية قدرات على استنبات تكنولوجية حديثة(15).
فالذي حصل فعلاَ لم يكن سوى الإهمال في القدرات والموارد البيئية واستزراع الصناعات ومصانع دون تهيئة المناخ المناسب. أهملت الزراعة التي هي عصب أية عملية إنتاجية وأساس التوازن بين كل قطاعات الإنتاج والذي أدى بالمجتمعات الزراعية التي كانت متوازنة في الأصل إلى أن(أختل توازنها, فأصبحت تستورد حتى المواد الغذائية الطبيعية غير المصنعة لأنها تخلت عن أريافها المنتجة وقبعت في شققها المفروشة وبيوتها الصفيحية والتراب جوار المدن في تقليعة جديدة تمدينية تمشيا مع نزعة الفندقة المجتمعية أو المجتمع الكان في جميع المجالات حتى في مجال بناء الذات الإنسانية وأعني به تهافت التهافت على التعليم ودكاكينه وليس على التربية الفاعلة المخططة والمتوازنة والتي تقوم على السعي لاكتشاف الحاجات عند المتعلمين ومحاولة إشباع هذه الحاجات تلافيا لتربية فوقية استهلاكية فصامية>>(16).
أن أوهام التنمية التي عششت في رؤوسنا والتي استندت إلى اعتبارات غير أساسية الانبهار بحضارة الغرب وشعور بدونية قاتلة اعتبرت أن نقل التكنولوجية هوه من الأولويات لكل عملية تنموية , هذه الأوهام لم تستطع أن تنتج أكثر من دعايات إعلامية لهذا النظام أو ذاك ودعاوى في التقدم موهوبة ولم تضف سوى رتوش هشة على صور التنمية وخرائطها . وقد تأت البلدان النامية عن حقيقة مفادها أن التكنولوجيا القادرة على رفع الإنتاجية ليست سوى تلك التي تكون ثمرة جهد ومثابرة واستنفار لطاقات المجتمع بمختلف فئاته .
<< فاليابان الحديثة صنعها صغار الحرفيين جنباَ إلى جنب مع كبار الإقطاعيين, وإمبراطور جبار كان قد استوعب الحضارة الحديثة. وأمريكا الشمالية قد صنعها رعاة البقر بسواعدهم وعرق جبينهم, وإيمانهم بمجتمع جديد. وثورة أوروبا الصناعية في القرن الثامن عشر قام بها فلاحون حديثو العهد بالصناعة, وعمال مهرة بلا علم خاص>>(17).
وماذا نتج عن اعتماد التوسع العشوائي في التعليم غير المخطط والمدروس؟
لم ينتج عن ذلك سوى ابتعاد السواعد الشابة عن العمل في الريف بل وفي المصنع بانتظار التخرج من الجامعات,يبقى الشاب عالة على غيره طوال فترة تحصيلة التي تمتد إلى سن الثالثة والعشرين وفوق ذلك إلى سن الثلاثين دون أن يسهم في العملية الإنتاجية. وليس ذلك فحسب فقد ساد في المشاريع التنموية التركيز على الجانب الاقتصادي مقطوع الصلات عن جوانب الحياة الأخرى, وكان تقليد المراكز المقدمة هو السائد دون الالتفاف إلى القوى الذاتية
بل إهمالها وعرقلة نموها.