مذكرات متخرج (2)
شاهر جوهر
للتخرج أينما كان طعم جميل ....له عطرٌ خاص ولونٌ خاص..فسني الجامعة رغم حلاوتها وطهارتها يتوجها التخرج بتاجٍ ابهى وأحلى ..أما في قريتي فللتخرج طعمٌ آخر ومذاقٌ آخر .طعمٌ مختلفٌ كل الاختلاف ، هو اقرب للملح المركّز منه الى العلقم..
إنصرمت سني الجامعه .... تعلمتُ خلالها الكثير .تعلمتُ خلالها كيف أكون نابليوناً وبأن هناك وقتٌ دائماً للإنتظار وعلينا به أن ننتظر ..لكني مادريتُ أن هذا الوقت قد يكلفني حرارتي بطولها...كما تعلمت كيف أكون ميكيافيلياً وكيف أخلق الازمات ولا يهمني كيف أُطفئها ..كيف أجابه النار بالنار ولا أقابل المحبة بالاحترام ...
أذكر في السنة الثالثه أن أستاذ " السياسه الخارجيه " كان واقعياً حتى العظم ..لكنه لم يعلم أننا مثاليون بالفطره ...مثاليون في أبسط أولوليات عاداتنا... في كلامنا في خبزنا وحتى حربنا وسلامنا ...
تعلمت منه ومنهم اشياء كثيره كنت أظنها الاسس السليمه لحياةٍ سليمه لكن اساتذتنا بالجامعه لم يخبرونا ان الجامعه شيء وان الحياة أشياء أخرى مختلفه تمام الاختلاف ..لم يخبروني أنه عندما يتم تسيس الخبز والعلم والتجاره تستحيل مطالب الشعوب في الاصلاح أمرٌ مبرر ...كما لم يخبروني أن الجندي الوفي هو ذاك الذي يعرف عدوه جيداً ..و انه لا خير في أبٍ لا يعرف أو حتى " يعترف " بحوائج أبنائه .. لم يعلموا أننا إن لم نعمل نجوع ...وربما نموت أيظاً..لأننا لسنا شخصياتٍ في كتاب لزكريا تامر أو شتاينبك...
نحن جاهزون يا رفيقي...جاهزون لسياسةٍ جديده ...لمنهجٍ جديد ...ولحياةٍ جديده...لأننا لايمكن أن نفاوض على الخبز مع أياً كان..لأن هناك من دخل رؤوسنا يا صديقي ..دخلها بالحديد والمنشار والآلة...هناك من غسل عقولنا بالطين والصابون ...هناك من يتلاعب بنا ..بعواطفنا وأدمغتنا و بإرادتنا وحتى بدمنا...ولأننا لا نريد شيئاً أكثر منه ... لا نريد شيئاً أجمل منه ...لا نريد شيئاً سوى السلام.... ذاك السلام الداخلي الهادئ المريح.. أربع سنين إنصرمت ... بل ستٌ وعشرون عام مرت... عشنا خلالها كمثلثٍ ودائره ..فهل يتطابق هذا مع ذاك ...ومن منا المثلث ومن كان منا الدائره يا ترى...
****
لستُ رجلاً محبوباً من الجميع...رغم أن كثر يرونني رجلاً ناجحاً...فكل يوم أقرأ في عيون الكثيرين ممن أشاركهم الشارع والمخبز والسمان والأهم طابع الانسانيه الكثير من الاشمئزاز والقرف , لدرجه أن بعظهم قالها لي علناً ذات جمعه عندما كنت عائداً من المسجد ,إستوقفني وقال " الصلاة لعديمي الشخصيه يا أبو الشيش..." ... أذكر أني قرأت تلك العباره لأحدهم وأذكر إن لم تخني الذاكره أنها لأكبر ملحد ألماني " لودفيغ فيورباخ" والتي تقول "الدين للفقراء" ...لستُ أنكر أني بحاجه الى الله كثيراً ...أنا وحتى "قوي الشخصيه" ذاك...لأني بحاجه الى الكمال الدنيوي ..بحاجه لأن أرتفع عن تيارات البغضاء والقطيعه ...إنه لعذاب عضيم يا رفيقي أن ينتقدك بقسوه ذاك الذي ما سمعتَ بإسمه إلا في جرم أو جنح أو جنايه.. لستُ شريراً حد الفضاعه ولستُ أيظاً خيّراً حد الطهاره...ومع ذلك لا أستطيع الابتعاد عن الله...أعلم ان الطريق لطهارة النفس هو طريق شاق وطويل لكني أحب الحكمه الهتلريه القائله: "..ليس في عالمنا هذا مكان لمن يتهرب من النظال.." ...إذ لا ينبغي ان ننكر الحقيقه حتى في نفوسنا ...وعندما نسلّم بتلك القضيه نعرف الله ...لكني والصدق يقال عرفت حدودي ...لكني لم أقف إلا وقد اجتزتها....قد ضاع الفهم يا صاحبي ...واظن ان الاحترام اندثر ...لكن ليت الناس يفهمون ان الحياة ابتسامه وانه سيموت اولئلك الذين لم يتعلموا كيف يبتسموا ...
أحببت الله يا رفيقي واحب وطني واحب عائلتي .....تلك الاخيره التي لي معها قصة حب وقصة سوء فهم ...أبدأها بآذار ...فلآذار معي حكايه أجدها مؤلمه بعض الشيء ...يضحك زميلي ضحكاتٍ هستيريه عندما أقول له أني أكره آذار ...وأني لأستقبل آذار كل عام محاذراً إياه أكثر من محاذرة الحبلى وحزمها ... وعندما يسألني مستفسراً السبب أقف معتصماً بالصمت غير مجيب ...
فلا أعتقد أنها مصادفه أن يكون يوم ولادتي في الواحد والعشرين من آذار هو نفس اليوم الذي إنتقل فيه والدي الى ديار بارئه قبل ست سنين من ولادتي... ولا أعتقد أنها مصادفه أيظاً أن يكون خيار أختي الوسطى بالانتحار في سنة 1996 هو نفس اليوم أيظاً ...
"فتخيل انك غير موجود".... بهذا المعنى طلب الاطباء من والدي ان يكون ...وبهذا المعنى إختارت اختي ان تكون ....من الصعب ان يستقبل المرء خبر أنه ميت لا محاله... من غير المتخيل ان تنام وتصحو ليخبرك الاطباء أن تهيء لنفسك الكفن .... كنت في السادسه عندها.... وكانت والدتي في الاربعين ...ومن مشفى ابن النفيس في دمشق جلبوه جثةً هامده ...
" الرجال ما يبكون .." أذكرها بوجهٍ مليء بالدمع قالتها لأخي الاكبر ذو السادسه عشره ربيعاً....وجوه كثيره اعرفها واخرى لا اعرفها ... بعضها يذرف دمعاً...وأخرى تلطم ...وثالثه تقول " هاتو ميّ ... هاتو ليمون الزلمه غمي .." ورابعه تقبلني وتشدني إليها بهستيريّة ......كلّهم ...إلا انا .... لم أبكي ... لأن الرجال لا يبكون ... أو ربما لأن الدمع شأناً نسائياً محض..... لكنني لم أبكي .... ولن أبكي ....فرغم غباء والدي أجدني أحترمه لأنه إختار لي أمي .... مع ذاك لم أبكي....ولن أبكي....
يتبع........
والله ولي التوفيق...
مواقع النشر (المفضلة)