الربيع العربي ومخاطر النظام العالمي الجديد
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
بعد انتهاء الحرب العالمية الآولى عام 1918م تم تقسيم العالم بين المحاور المنتصرة في الحرب، فكان ما يهمنا نحن كعرب في هذا المخاض هي اتفاقية سايكس بيكو المشئومة بين وزيري خارجية فرنسا والمملكة المتحدة بعلم ومصادقة الإمبراطورية الروسية. وجرت محادثات مراثونية سرية بين الوزيرين وتم تبادل الخرائط حيث امتدت هذه المحادثات من نوفمبر عام 1915م وانتهت في مايو من عام 1916م وأدت الى تقسيم العالم العربي الذي كان تحت الحكم العثماني كما هو على تقسيمته اليوم.. حيث شهد الرحم العربي حمل أكبر عدد من الأجنة في تاريخ حمل الثديات وعلى رأسها الإنسان. وكانت ولادة الكيانات العربية القائمة اليوم والتي تربو على عشرين جنيناً. ونتيجة لكثرة عدد الأجنة بالرحم فقد ولدت الأجنة هزيلة وضعيفة نظراً لتزاحمها على كمية الغذاء المحدودة التي كانت تصل بالقطارة الى الأجنة عبر الحبل السري. ونظراً للمشاكل التي أثارها اليهود في اوروبا والفتن التي حركوها في المجتمعات الآوروبية التي تأويهم وذلك لعدم تأقلمهم مع المجتمع الآوروبي لطبيعتهم الإنعزالية وفكرهم الفوقي المتعالي على باقي البشر ، ولما تعرضوا له من اضطهاد على يد هتلر تأديباً وعقاباً لهم على أفعالهم، كانت الفرصة مواتية لدول اوروبا المنتصرة في الحرب العالمية الآولى أن تتخلص من هذا الوباء السرطاني الذي يهدد مجتمعاتها وأن تزرع كياناً غريباً وظيفياً في قلب العالم العربي الذي يرزح تحت الإحتلال ويشطره الى نصفين، فأمدت هذا الجنين المزروع بفلسطين خاصرة الوطن العربي والتي تصل بين شطريه بعوامل القوة والدعم اللامحدود. واستطاع هذا الجنين الهجين برعاية زارعيه المنتصرين أن يهزم الأجنة العربية العديدة والهزيلة والضعيفة. وذلك ليكون ذراعها المتقدم في المنطقة ليحافظ على نفوذها وديمومة سيطرتها على العالم العربي.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ظهرت امبراطورية جديدة هي الولايات المتحدة الأمريكية كانت سبباً في تحقيق النصر لنفس المحاور المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لذلك ورثت عنها مناطق النفوذ مستنيرة بخبرة الإمبراطوريتين المنحسرتين البائدتين في المنطقة، ونفذت وصيتهما بالمحافظة على الكيان الصهيوني قوياً وخادماً لمصالحها. وكانت الحرب الباردة بين امبراطوريتين قويتين افرزتهما الحرب العالمية الثانية هما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي حيث دخلتا في سباق تسلح مراثوني، وقسمتا العالم الى مناطق نفوذ بينهما. وأدارتا حروباً بين مناطق النفوذ التابعة لهما. وكانت كل امبراطورية تمد حلفاءها بالأسلحة والدعم السياسي في المحافل الدولية. وكان سكان العالم الخاضع لتلك القوتين وقوداً لهذه الحرب الباردة المريرة.
وفي عام 1991م تفكك الإتحاد السوفياتي الى 15 دولة بعد وفاة معظم قادته الأصوليين وتسلم ميخائيل غورباتشوف مقاليد السلطة وتبنيه مشروع البريسترويكا الذي وعد فيه بإقامة سلام مع الولايات المتحدة الأمريكية يفضي الى سلام عالمي ورخاء لشعبه. وحصل انقسام بين الأصوليين والبريسترويكيين في الإتحاد السوفياتي أدى الى وصول بوريس يلستن للسلطة على ظهر دبابة وتولى مقاليد السلطة، وأعلن الإستسلام للولايات المتحدة الأمريكية وكان التفكك والإنهيار. بعد ذلك تفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالسلطة المطلقة على العالم كقطب أوحد، وكان لا بد من التخلص من كل الأنظمة التي كانت حليفة للإتحاد السوفياتي، فكان الربيع الآوروبي الشرقي الذي تساقطت فيه تباعاً جميع الأنظمة الراديكالية في اوروبا الشرقية والتي كانت تابعة للإتحاد السوفياتي وتقسمت فيه يوغسلافية. وتمت محاكمة رؤوس تلك الأنظمة بذنوب ديكتاتوريتها وجرائمها بحق شعوبها وذلك بعرف النظام العالمي الجديد وفي سياق إرادته.
وكانت القيادة الفلسطينية الحليفة للإتحاد السوفياتي أول الواعين من القيادات العربية الحليفة للإتحاد السوفياتي لتلك التحولات العاتية والتيارات الجارفة في ظل النظام العالمي الجديد فعمد الراحل ياسر عرفات الى عقد اتفاق اوسلو مع اسرائيل ليدخل في سياق النظام العالمي الجديد متقياً ومشيحاً عن وجهه رياح التغيير العاتية قبل أن يطيح به وبقضيته تيار القطب الأوحد الحليف الوفي للعدو الصهيوني. فعاد من تونس الى فلسطين مع مقاتليه ليظل في بؤرة وواجهة الحدث وفي جبهة الصراع من أجل تثبيت ما تبقى من الحقوق الفلسطينية وإبقائها على طاولة البحث العالمي قبل أن يطوى ملفها ويحفظ بالأرشيف. ورحم الله امرؤاً عرف قدر نفسه فحفظها من الخطوب والنوائب والتهلكة. وذلك بعد أن عاشت القضية سنوات كلها عجاف الاّ سنوات الإنتفاضة الآولى في فلسطين عام 1987م وذلك بعد الخروج من بيروت الى تونس بعيداً عن حلبة الصراع. وبعد أن انتهت الولايات المتحدة الأمريكية من الشرق الآوروبي، توجهت بأنظارها الى العالم العربي لتنهي كل الأنظمة الراديكالية التي نشأت في ظل الحرب الباردة والتي كانت ممالئة للإتحاد السوفياتي. وتكلست تلك الأنظمة العربية التقليدية الجمهورية والتي كانت تلبس عباءة الملكية حول كراسي السلطة .
وكانت تهدف امريكا الى تقسيم العالم العربي الذي كان مقسماً طولياً وعرضياً اصلاً لتقسمه الى مربعات كيانات عرقية وطائفية على ضوء الرؤية الأمريكية ككراسة المربعات. وسربت خرائط جديدة للعالم العربي تشمل كل التجمعات العربية الكبيرة كالعراق وسوريا ومصر والسعودية وذلك لإعادة تقسيمه وتقطيعه ليتوائم مع مصلحتها ومصلحة الكيان الصهيوني وليتقارب مع حجمه ولكي تظل هذه الكيانات العربية المتشرذمة تحت سوطه ورقابها تحت سكينه وسكينها. واستخدمت في ذلك سلاح التبشير بالديمقراطية التي يفتقر اليها عالمنا العربي تحت حكم هذه الأنظمة المتحجرة. وكانت البداية من العراق وذلك باستخدام القوة الخشنة والحرب الضروس في تحد للقرارات الدولية يساندها بعض من أذنابها في اوروبا (ما يسمى بحلف الناتو) وبعض القوى الإقليمية المجاورة الطامعة.
فألقت بحممها على الشعب العراقي أطنانا من القذائف واستخدمت آخر ما توصلت اليه من تقنية حربية وأذاقت الشعب العراقي صنوفاً متعددة من الويلات والمصائب والتهجير، وأحرقت الأخضر واليابس، واستطاعت التخلص من حكم البعث الراديكالي الذي اختار المواجهة رغماً عنه وكبراً وعناداً للواقع ومعادلات القوة، وحفاظاً على السلطة المطلقة للحزب الواحد والقرار المتفرد. وأدارت أمريكا البلاد بأسلوب وعقيدة أدت الى تقسيمه ديمغرافياً عرقياً طائفياً، مما سيؤدي في النهاية الى تقسيم العراق جيو سياسياً الى ثلاثة كيانات على اساس عرقي وطائفي. متبعة نفس اسلوبها في الشرق الآوروبي.
وكان يفترض في الخطة الأمريكية أن تتجه الى سوريا للإطاحة بالنظام الحاكم والعمل على تقسيم سوريا على غرار العراق وذلك بعد انتهاء مهمتها في العراق، ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، ولم تكن الحسابات والتوقعات دقيقة، فقوبلت بمقاومة عراقية عنيفة للإحتلال من شرفاء العراق القومي العربي، وبممانعة ايرانية نظراً للتحالف السوري الإيراني ولما كانت تقدمه سوريا من دعم للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية، فاصطدمت المصلحة الأمريكية بالمصلحة الإيرانية الفاعلة، حيث أصبحت ايران لاعباً رئيسياً في الساحة العراقية وأمسكت الولايات المتحدة من الذراع التي تؤلمها في العراق الذي يتواجد به ما يزيد عن مائة وخمسين ألف جندي أمريكي في العراق مهددة أرواحهم.
وبدأ الإقتصاد الأمريكي ينهار ويتآكل. واستطاعت كل هذه العوامل كبح جماحها عن اكمال خطتها باتجاه سوريا باستخدام القوى الخشنة للتغيير. وبعد حساب الأرباح والخسائر في ميزانية الحرب على العراق وجدت الولايات المتحدة أن خسائرها من الحرب تفوق ارباحها بكثير ، فبعد أن كانت تدير عملية الإحتواء المزدوج بين العراق وإيران بحرب ذاتية بين القوتين بصفتهما قوتين رئيسيتين بالمنطقة على بحر من النفط، تمردت عليها ايران في ظل الإلتهاء عنها ابان ادارة الحرب على العراق، وأعادت بناء قوتها وأخذت تقاسمها النفوذ بالمنطقة وتؤثر على سيادتها وقراراتها وتلوي ذراعها لتستعيد دور الشرطي بالمنطقة. حيث أتاحت لها دخول الساحة العراقية من أبواب واسعة تتحكم بالحكومة العراقية وتفرض عليها شروطها. وصارت الولايات المتحدة تسترضي ايران على حساب حلفائها من العالم العربي في عملية تبادل للمنافع ووقعت في تناقض مبدأي. وتعرضت سمعتها في العالم للنقد ولخسارة فادحة.
وهنا انتبه العقيد القذافي للتسونامو الأمريكي الأوروبي الذي يجتاح العالم، فسلم مقاليد أمره لهم لعلهم يشطبونه عن قائمة الإنتظار المدرجة عليها الأنظمة العربية التي يجب تغييرها، ونهبوا الخزينة الليبية بالتعويضات عن ضحايا لوكاربي وبالهدايا والعطايا الليبية لأمريكا ولفرنسا وايطاليا وبريطانيا وغيرها.
لكنهم ظلوا في شك تجاه نظام حكم العقيد يتحينون الفرص للإنقضاض عليه على الرغم من إظهارهم حسن النوايا المؤقتة تجاهه واستقباله بحفاوة. وذلك لأن العقيد يحكم بلداً مترامي الأطراف قليل عدد السكان وفيه من الكنوز والخيرات الشيء العظيم. وجاءت الإنتخابات الأمريكية برجل أكاديمي لا يملك تجربة سياسية وليس له عمق حزبي وعرقي فاعل في الحراك الإقتصادي والسياسي، ويجيد اسلوب الخطابة والضحك على الذقون هو باراك حسين اوباما ليكون دمية في واجهة السلطة لتحسين المظهر الأمريكي وتلميع الديمقراطية الأمريكية التي انتخبت رجلاً اسوداً لأول مرة في تاريخها، وتم كل ذلك وبنوايا مسبقة دون تغيير بالعقيدة السياسية تجاه المنطقة العربية، وإنما طرأ تغيير على اسلوب تنفيذ مخططاتها للمنطقة وذلك باستبدال وسائل التغيير بقوى ناعمة وبإثارة الفوضى الخلاقة بدلاً من القوى الخشنة.
واستخدمت الإعلام كسلاح فاعل في حراكها الجديد وتناغم معه بعض الإعلام العربي مأخوذاً بالديمقراطية الأمريكية. وفي ظل الأزمة الإقتصادية العالمية الخانقة بسبب النظام الرأسملي الليبرالي الحر، ونظراً لغليان الأسعار واختفاء الطبقة المتوسطة من الشعوب العربية نظراً لتحالف الطبقة الغنية الرقيقة في المجتمع مع السلطات الحاكمة وسيطرة رجال المال والأعمال على السياسة، وتحكمهم بمقدرات الشعوب العربية، ولتفشي الجوع والفقر والبطالة والقهر والظلم وفحش الغنى للقلة من المجتمع، انفجرت الشعوب العربية وانطلقت الشرارة الآولى من تونس في قرية في الريف التونسي المنكوب، وامتدت الشرارة امتداد النار بالهشيم في كل البلاد وذلك للظلم والقهر المتراكم في نفوس الناس. وأطاحت الإنتفاضة الشعبية برأس النظام. وانتقلت الشرارة الى مصر التي تعاني أضعاف ما تعانيه تونس من فقر وبطالة وقهر وظلم، وأطاحت الإنتفاضة الشعبية العارمة برأس النظام في مصر.
وتطاير الشرر الى اليمن وليبيا وسوريا. وما نشهده اليوم من مخاضات عسيرة في كل الدول العربية التي انتفضت شعوبها يحتم علينا الحذر كل الحذر من استغلال الطامعين في مقدرات هذه الأمة وخيراتها والذين يريدون بنا شراً ويريدون لأنفسهم الخير. وهنا على الشعوب العربية أن تتنبه الى مخاطر النظام العالمي الجديد الذي يزحف للمنطقة متخفياً بالقوى الناعمة تحت القيادة الأمريكية. وكذلك على الأنظمة العربية الحاكمة أن تعمد فوراً الى استيعاب الموقف الخطير وتجنح الى السلام والمصالحة مع شعوبها وإعطاء الشعوب ما تصبو اليه. وأن لا تعمد الى قتل مواطنيها لكي تسلم البلاد من التدخلات الخارجية الطامعة بحجة حماية المدنيين لكي لا نعيد لأوطاننا الإستعمار من جديد وبأي شكل من أشكاله المتعددة.
وما يخيف في تلك الإنتفاضات انها لم تكن ناجمة عن تخطيط مسبق وبفعل قيادات فكرية نخبوية تريد النهوض بالمجتمعات وتحدث ثورة حقيقية في المجتمع لتصل به الى تنمية شاملة لكل مفاصل الحياة من علمية وثقافية وصناعية وزراعية واجتماعية تمهد الطريق للوصول الى ظروف اقتصادية نامية تخرجه من دوامة الفقر والجوع والبطالة والظلم ليصل المجتمع في نهاية المطاف الى حرية التعبير وهو لا يعاني من أسواط الجوع والفقر والبطالة والظلم. لذلك لا يمكن أن يطلق على ما يحصل ثورات ناضجة أو ربيع عربي، انما هي انتفاضات جوع وفقر فجة تحتاج الى وقت لتصل الى مرحلة النضج وانتاج ثورة حقيقية.
فهي ثورات بدون رؤوس تحكمها وتوجهها وبدون بوصلة وطنية، لذلك فهي قابلة للإختراق من القوى الخارجية كما حصل في ليبيا التي آلت فيها الأمور الى طريق مجهول لا أحد يستطيع التنبؤ به بعد أن تم تفكيك الدولة والمؤسسات والجيش والأمن وتدمير البنى التحتية بفعل مقصود وانتشر السلاح غير المنظم والمقنن بين المواطنين وبكميات هائلة. وانتشرت الفوضى في غياب للقانون.وكثر الطباخون مما أدى الى شياط الطبخة. وسيؤدي ربما الى التقسيم القديم، وإن أخطر ما يمكن تصوره في تلك المخاضات العربية هو تفكيك الدولة ومؤسساتها الخدمية والقانونية والعسكرية والأمنية وتدمير البنى التحتية وانتشار الفوضى والسلاح بين المواطنين. نأمل من الله وندعوه بأن يحفظ كل البلاد العربية من مخاطر تلك المخاضات العسيرة.
فحفاظ المواطنين على سلمية احتجاجاتهم الخارجية ومنطقية مطالبهم وعدم مطالبتهم بالتدخلات، وانصياع الأنظمة الحاكمة لمطالب شعوبها المنطقية هو الضمانة الوحيدة لسلامة البلاد من مخاطر النظام العالمي الجديد. ولا يجب أن تنتظر الشعوب الإصلاح بعصى سحرية وفي يوم وليلة.
فالمطلوب الصبر والرصد لحركة التغيير لتكون على السكة السليمة التي تحقق طموحات الشعوب العربية.
وتحفظ الأوطان من براثن الإستعمار الناعم الذي حل محل الإستعمار الخشن.
مواقع النشر (المفضلة)