رصاصات في رؤوس اردنية ..... وصفي التل
د.بكر خازر المجالي
اعود الى الاسبوع الذي تلا الجريمة الغادرة في القاهرة في 28 تشرين الثاني 1971م ، وكيف نشرت الصحف المصرية واللبنانية خاصة ( جريدة الانوار ) على صدر صفحاتها الاولى صور المجرمين الاربعة وهم يضحكون ويرفعون شارة الانتصار باصابعهم ، ومن ثم كيف كانت وقائع محاكمة القتلة تنشر تباعا ، ومن ثم يكون القرار ببراءة المتهمين من جريمة القتل ، ونستذكر مرافعات الدفاع عن القتلة لمحامين ومتطوعين وشهود ، ومن ابرز مرافعات الدفاع عن القتلة كانت مرافعة السيد احمد الشقيري الذي قد جاء مع الملك المرحوم الحسين من القاهرة قبل اربع سنوات من هذه الجريمة وهو يتحدث عن الدور الاردني وبطولات قيادته وقد التقى وصفي التل اكثر من مرة حين كان رئيسا للديوان الملكي ، ولكن لا اعتقد ان احدا يتحمل الفاظ الشقيري وهو يكيل الشتائم والتهم للاردن وقيادته ، واعتبر القتلة ابطالا عظام سيسهمون في بطولتهم في تحرير فلسطين .
تلخص سيرة وصفي التل الحالة العربية من يوم رفضه لممارسات قائد جيش الانقاذ الفلسطيني القاوقجي في حرب فلسطين 48 واكتشافه لعدم جدية القاوقجي ولا جيشه في القتال ، وحين عاد الى دمشق تلقى مؤامرات عدة ابرزها ما قام حسني الزعيم به حين سجنه ، ومعروف عن حسني الزعيم( دام انقلابه 137يوما من شهر اذار 1949م ) انه كان على وشك ابرام معاهدة سلام مع اسرائيل تتكون من ثلاثة بنود هي : عقد معاهدة دفاع سورية اسرائيلية لتقوية نظامه ،والبند الثاني الحصول على نصف مياه طبريا اما الثالث وهو البند العظيم ان تستقبل سوريا وتستوعب 250 الف فلسطيني في اراضيها وهؤلاء كانوا يشكلون حوالي 30% من سكان فلسطين حينها .
وسيرة وصفي فيها صورة الوطني المخلص الذي كان يعمل باستمرار على بناء الجبهة الداخلية لمواجهة العدو الصهيوني ، وكان عدوه الاول اسرائيل ياستمرار ولا يتنازل عن هذه العدوانية وصلابة الموقف ، وقد اغتيل وصفي وهو يناقش خطة عربية شاملة وضعها امام مؤتمر وزراء الدفاع العرب الذي حرص هو ان يحضره رغم كونه رئيس وزراء ولكن ليقوم مطمئنا وبنفسه بشرح خطة الدفاع عن فلسطين والعرب وتقديم السبيل الامثل لمقارعة الخصم ،
وصفي وهزاع كلاهما اغتيلا لنفس السبب ، هزاع اراد اقامة دولة فلسطينية قوية تتصدى للعدو وتكون رأس الحربة العربية ، وتكون هي الثابت الحقيقي في المعادلة العالمية ، ولعل خطة هزاع كانت السبب فيما بعد لخطة اسرائيل احتلال الضفة الغربية وتمزيقها وفرض الامر الواقع لمنع التفكير بدولة فلسطينية يكون عمقها اردنيا باعتبار وحدة المصير والاصل والهدف والخطر والمصاب .
ولعل خطة وصفي ومعاداته ومواقفه الصلبة من الصهيونية ، وحمله وحيدا ومنفردا دون كل وفود العرب لمشروع التصدي الشامل للعدو في مؤتمر وزراء الدفاع العرب هي السبب في الاغتيال ، ولكن كانت هناك ظروف واسباب صَلُحَت الى حد ما بتبرير الاغتيال والتغطية على الدوافع الحقيقية باستغلال احداث ايلول 1970 وجرى الترويج لها لاثارة الفتنة والحقد وزرع المشكلات وتحويل الانظار عن المنبع الرئيسي لاغتيال وصفي ، وربما كان هناك تشابه وتلاقي مع اسباب اغتيال هزاع لان هناك اسبابا اخرى يُنتَظرُ الكشف عنها .
لعل قدر الاردن ان يدفع ثمن عروبته ومصداقيته من يوم اغتيال الملك المؤسس عبدالله الاول الذي دفع حياته ثمنا لمشاريع الوحدة العربية التي ينادي العرب بها بكل قوة ولكن يقتلون وغيرهم من يحاول التفكير بها ، من مشروع سوريا الكبرى الى وحدة الضفتين ومن ثم مشروع الاتحاد العربي ( العراقي الاردني) الذي كان جاهزا في عهد الملك المؤسس ، ويكمله الملك الحسين وفيصل الثاني ويذهب ضحيته الاسرة الهاشمية في بغداد في 14 تموز 1958م.
هذه الرصاصات في الرؤس الاردنية هي مسلسل مستمر لا نهاية له ويتعدد مخرجوه وممثلوه ومنتجوه وممولوه ، والبطل هو الاردني دائما ، فقتلة نائب المعايطة في بيروت او عزمي المفتي في بوخارست او زياد الساطي في انقرة ،ومحمد خورما في نيودلهي وعاصم قطيشات وجمال بلقز في مدريد وتيسير طوقان في روما وعمر صبح في بغداد وخالد الردايدة في غزة وغيرهم ممن جرح او اختطف ، ما كانوا اهدافا الا لانهم اردنيون، ونلاحظ توزع الدم الاردني في عواصم العالم وملاحقة العداء والحقد ، وبالطبع ان ما يبعث على الاعتزاز والافتخار أن كل القتلة هم من بني جلدتنا . ( رصاصات في رؤس اردنية هو عنوان كتاب للكاتب سيرى النور قريبا )
وصفي التل الرئيس العملي الواقعي الذي كان يقرأ المستقبل ، ويخطط لدولة تعتمد على ذاتها ، ومن ينظر اليوم الى جسر عبدون المعلق يفتخر وهو يرى هذه التحفة الرائعة ، لكن عند وصفي فان ذات المكان كان مشروع خزان ماء عمان الكبير ، سدا ضخما يروي عمان ويكون بُحيرتها ،( تصوروا هذا المكان بحيرة الان ) ، وكان وصفي صارما بمنع اي بناء في عمان الغربية ، وان تكون عبدون والصويفية والشميساني وام اذينة وسهول صويلح ودير غبار ان تكون سلة الاردن من الخضار والحبوب ، ووجّه البناء باتجاه الشرق بدلا من ان تتحول الاراضي الخصبة الى غابات من الاسمنت ،وصفي التل في كل ندواته ومحاضراته يحث على الزراعة وتعميق معاني الانتماء والمواطنة والاهتمام بالشباب وكان يقول لا يمكن للشباب ان يتقدموا بمنأى عن الكبار ، وله فيض من المصطلحات في هذا الصدد ، وكانت اجمل لحظاته في تعشيب اشجار حاكورته في طريق السلط والى جواره زوجته سعدية ، وان يحرث بواسطة السكة بين الاشجار ، أو ان يقضي نهاية الاسبوع مع واحد من رفقائه في بلدة الياروت في الكرك مع المرحوم عبدالوهاب المجالي يسيرون بين البساتين وسناسل الحواكير ، أو ان يقرأ في مكتبته التي تضم كتبا في القومية العربية والمستقبل العربي ومذكرات القادة العظام.
وصفي التل نموذجا في المواطنة ، ونموذجا في الادارة والحرص على المال العام ، ومدرسة اردنية متكاملة ولعلِّي ارى ان طلابها قد قلّوا هذه الايام فخرجوا من مدرسة هزاع ووصفي الى مدرسة نيرون، او مدرسة داحس والغبراء ،ولم يعودوا بحاجة الى الجامعة فيسهل عليهم اغلاقها وتعطيل الدراسة فيها ، ولا حاجة للدولة لتصريف امورهم فلا قيمة لدائرة حكومية فيسهل حرقها ، ولا معنى لسيارة شرطة فيهون تحطيمها ،ولا داعي لاشارة المرور ..
لا ادري لو كان وصفي بيننا او هزاع في هذه الايام فماذا سيقولون ، وماذا سيقررون؟؟ اعتقد انهم سيقررون ترك السيارة المحروقة في مكانها ، واغلاق الجامعة التي تُحطم وتكون مسرحا لمشاجرات ، والغاء الدائرة الحكومية التي تحرق لقناعتهم ان اناسا يفعلون مثل هذا الامر فهم يرسلون رسالة الى الجميع بأن لا حاجة لنا بجامعاتكم ولا شرطتكم ولا دوائركم ...
يفعلون ويقررون وهم يدركون مصلحة الوطن العليا وان قوة الوطن من قوة المواطن ، وان المواطن ان استقوى على الدولة فهي البداية للنهاية التدريجية الدولة ، وبداية تسلل المتربصين بنا الينا ، لأن النوافذ ستفتح ولا حاجة لانتظار فتح الابواب ؟؟؟؟
و لكن عن أي الرجال أوالرجولة يتحدثون ؟؟؟
وبماذا سنجيبهم لو يسألون ؟؟؟
وما هو الوطن الذي سنصفه لهم ؟؟؟
وما هي لغة الوطن اليوم ؟ هل غاب ام تم تغييبه ، وحتى ادبيات الحوار والنقاش اضحت بلا قيم وتفاقم سوءها مع تفاقم وسائل الاعلام وازدياد مساحة التعبير فبرز مرضى النفوس والفم ، وقلّ عقلاء الوطن ...وتراجعت قيم المواطنة وتعددت رؤس الانتماء وخسرنا اخلاقيات العلم والقراءة الناقدة ، واتجهنا الى الشخصنة حتى اضحى انه من السهل ان تدمر مؤسسة من اجل شخص ، أوان يكفيك قراءة اسم الكاتب فقط لتطلق احكامك فورا ..
وصفي لا تخشى ولا تخف ... فلا زال الوطن عامرا بالرجال والأغيار .. ولا زالت السيوف في اغمادها وكما قلت وقال هزاع وحابس ان الاردني اذا ما تحديته وشعر بالخطر يداهمه فهو الاسد الهصور الذي يقرض الصوان ..........
انتم الرجال الراحلون .. ومهما اشتدت الغمة والظلمة فانتم لنا المثل حين واجهتم ما هو اشد غمة من يومنا ، وواجهتم المحن والاخطار فأوقدتم بدمائكم جذوة اردنية تصلى نارا ، ولن يكون لمتربص بنا شأن ما .
أيها الرجل الملك المؤسس ويا وصفي وهزاع ... نبعث رسالتنا اليكم برائحة اطارات الشوارع وبلون دخان حرائق المكاتب و بلحن شعارات وهتافات اختلطت علينا وتكالبت ، لنطمئنكم اننا نخاطبكم من آلامنا واوجاعنا ومن صبرنا الشديد وتروِّينا ، ومن جرحنا الذي هو في كفنا وفي خاصرتنا ، وسنصبر كما انتم صبرتم ، فأنتم النبراس ونحن عنوان الثقة والامل والانتصار ....
ولكن ستستمر الرصاصات مصوبة صوب الرؤس الاردنية طالما بقيت ممتلئة بالعزة والعروبة والصدق ، رؤس تزداد صلابة في كل يوم ...
ولن تتوقف المسيرة ..
مواقع النشر (المفضلة)