مثلث الوطن (الجغرافية، التاريخ، التراث)
بقلم أحمد ابراهيم الحاج
الجغرافيا
هي رقعة الأرض التي ولد وترعرع فيها الإنسان وخط فيها سيرته الآولى وتأقلم معها بيئياً ، وعشقها وألفها وتآلفت معه ، وهي اللوحة التي يكتب عليها الإنسان تاريخه ، بكدحه وسعيه في مناكبها ، وبشقائه وسعادته ، وبهزيمته وانتصاره ، وهي المأوى له إن عز عليه المأوى وضاقت به الأرض بما رحبت ، وهي الصدر الحنون الذي يرتمي عليه لشكوى همومه وآلامه وهي له بمثابة الأم التي ولدته (الأم الرؤوم) ، وإن غاب عنها يحن اليها ويتحرق شوقاً لرؤيتها واستعادة شريط ذكرياته معها تماماً كما يحن ويشتاق لأمه التي ولدته وربته وأرضعته ، وهي قاعدة مثلث (الوطن) ، وكلما حول الإنسان لون الجغرافيا الى اللون الأخضر والأزرق كلما ازداد تعلقه بها. ودليل أمومة الجغرافيا للإنسان أن الله خلق الإنسان من طين (تراب الأرض ممزوجاً بمائها). فآدم من تراب وحواء من الماء واللحم والعظم الذي تمثل في آدم بعد أن سواه الله بشراًوتتناسب قوة الوطنية وجاذبيتها للجغرافية تناسباً طردياً مع طول الفترة الزمنية للتاريخ.
التاريخ
هو أثر الإنسان على هذه الأرض كدليل قاطع أو ضعيف (سائد أو متنحي) لصك ملكيته لها كما أذن له الله بذلك لأن الملك لله وحده. حيث جاء به القدر الى هذه الأرض بتقدير من الله عز وجل ، وهو أيضاً أثر هذه الأرض في الإنسان ، ومن تفاعل الأثرين يرتبط تاريخ الإنسان بجغرافيته. والتاريخ هو الفترة الزمنية التي يقضيها الإنسان على الجغرافيا ويرتبط برباط إما يكون ضعيفاً أو متوسط القوة أو رباطاً وثيقاً ممتداً في أغوار الدهر. وإن حول الإنسان لون تاريخه الى اللون الأحمر بلون الدم وكتبه بمداد الدم فإن ذلك دلالة واضحة على حقه في ملكية هذه الأرض حيث وصل به الحب والعشق الى درجة التضحية بالنفس (الإستشهاد) دفاعاً عن حقه فيها.
التراث
هو ما ينتج عن تفاعل جغرافيا الإنسان مع تاريخه ، وهو الرابطة التي تربط جغرافية الإنسان مع تاريخه ، وهي منظومة عادات وتقاليد وقيم وأخلاق بغض النظر عن العقيدة والإعتقاد واختلاف الديانة في تعايش سلمي تحت مظلة التاريخ المشترك والتراث الواحد الذي نتج عن التعارف والشعور بوحدة المصير والتآلف المشترك على قاعدة الجغرافيا بعيداً عن الأيدلوجيا والمعتقد، ويتسم الإنسان بالتراث المنتمي لهذه الجغرافيا ، وهو ما يُميز بين انسان وآخر ، وشعب وآخر وقبيلة وأخرى ، حيث قال تعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمك عند الله أتقاكم" صدق الله العظيم. والشعوب تصنف على قاعدة الجغرافيا وضلع التاريخ ويتجلى هذا التصنيف واضحاً باكتمال المثلث بضلع التراث كدليل دامغ لا لبس فيه لكل شعب. ويميزه عن غيره من الشعوب ، وهو بمثابة الوشم الذي كانت تميز فيه القبائل دوابها عن دواب غيرها. وهو إثبات دامغ لصك الملكية للأرض إن جرى حول ملكيتها خلاف بين شعب وآخر إن توفر قضاء عادل يحكم بالعدل والقسط وينحاز للحق وينبذ الظلم والعدوان .
ولا يكتمل مفهوم الوطن بالجغرافيا لوحدها ، وكذلك لا يكتمل بالجغرافيا والتاريخ معاً ، لأن مدة التاريخ هي التي تحدد مدى أثره في البناء الوطني ، فهنالك تاريخ عابر قصير المدى كالزوبعة في الفنجان أو كجملة معترضة في الكلام ، وهنالك تاريخ متوسط المدى ، وتاريخ طويل المدى ، وما يثبت مدة التاريخ وقوة أثره في تلاحم الجغرافيا مع الإنسان هو التراث ويضفي عليه شرعية دامغة في امتلاك الأرض بإذن من الله. فالتراث هو المعامل في معادلة الوطن الذي يربط التاريخ مع الجغرافية ويشدهما لبعضهما البعض بقوة وبالتالي ينعكس على قوة الجاذبية الوطنية.
فمثلاً لو افترضنا إنساناً ولد وترعرع في أرض غير الأرض التي ولد فيها آباؤه وأجداده ، فإنه وبدون شك سوف يتأقلم ويتآلف مع هذه الأرض مكرهاً أخاك لا بطل تشبثاً بحب الحياة وتأدية الرسالة ، وسوف يعشقها ويحن اليها كما يحن الأخ لأخيه أو لأخته أو لأمه في الرضاعة ، وسوف يكتسب منها عادات وطبائع تتناسب مع البيئة والمناخ دون أن تؤثر على مكتسباته من العادات والتقاليد والقيم التي ورثها عن الآباء والأجداد ، وسوف يتواصل معها ويزورها بين الحين والآخر في إطار صلة الرحم وتواصل للجغرافيا العابرة مع التاريخ المديد ، لأنه خط سيرته على هذه الأرض ، وشكلت له هذه الأرض المضيفة وطناً آخراً ولكنه غير مكتمل الأضلاع ويمكن تسميته بالوطن الثاني ، أو بمثابة الأم بالرضاعة ، فقد سرى في عروقه حليبها ودماءها ، لذلك وجب عليه الوفاء لها باحترام قوانينها والتواصل معها وعدم نكران جميلها ،
وكما يقول المثل الفلسطيني "إليّ بشرب من بير ، ما برمي فيه حجار" كما ويجب عليه الدفاع عنها وحمايتها إن تعرضت للأذى أو للمكروه لأنه في الحالة هذه يدافع عن حقه في الحياة على هذه الكرة الأرضية. والإنسان في هذه الحالة يملك وطنين ناقصين ، وكل وطن بضلعين ، ولم يكتمل له مثلث الوطن ، كمن يملك بيتين بدون سقوف ، ويسكن في بيت بدون سقف يحميه من عوامل البيئة والمناخ ، فهو فاقد لغطاء الجنسية الحقيقية المنتمية لهذه الأرض على امتداد التاريخ في وطنه غير الأصيل ، لذلك سيظل يشعر بالنقص والحرمان ، والشعور بالنقص يولد ردود أفعال طبيعية ومشروعة في النفس البشرية ولّدها في نفسه التاريخ الذي ورّثه إياه آباءه ونقشوه في ذاكرته ، والتراث الذي استقاه من آبائه بوراثة عاداتهم وتقاليدهم في كل مناحي الحياة وهذا التراث ميزه عن غيره من سكان الوطن الذي يعيش فيه (وطنه الثاني)، وبذلك يمتلك من مثلث الوطن الأصلي (وطن الآباء والأجداد) ضلعي التاريخ والتراث ويفتقد قاعدة المثلث بالسطو والظلم وهو الجغرافيا التي ينتمي اليها بانتماء سلالته اليها ، ولا ننسى العوامل الوراثية التي ربما تميزه وتفرزه فرزاً ظاهراً عن باقي سكان الوطن باختلاف اللون مثلاً واختلاف اللهجة وربما اللغة واختلاف العقيدة وكذلك اختلاف أخلاق وسلوكيات وشعائر العبادة وقيم الدين الذي ينتمي اليه وايضاً اختلاف العادات والتقاليد ، فعندما يزوجه آباؤه يزوجونه على عادات وتقاليد الوطن الأصلي ، ويربونه على تراثهم المنتمي لهذا الوطن الضائع منه ، وعندما يأكل يرث عادات آبائه بنوعية وطريقة الأكل الذي استخلفه من آبائه ، وسيظل التراث يشده لوطنه الأصلي ، وبدوره سيحقن هذا التراث في شرايين وأوردة أبنائه وأحفاده ويورثه لهم ، وهكذا دواليك حتى يرث الله الأرض وما عليها.
إن العلاقة بين أضلاع مثلث الوطن (الجغرافيا ، التاريخ ، التراث) هي كالعلاقة بين الزوج والزوجة والأبناء، علاقة أسرية تكاملية وحدوية المصير على قاعدة السكن وأعمدة من روابط المودة والرحمة المتبادلة بين أفراد الأسرة، فمن تزاوج جغرافيا الإنسان مع تاريخه ينتج التراث، وحتى يكتمل بناء الأسرة لا بد من التكاثر وإنجاب الأولاد وذلك في خضوع لقوانين الخالق ولفطرته التي فطر الناس عليها وانصياعاً من الخلق لأمر الله في تأدية الرسالة التي أوكلها للإنسان عندما استخلفه في الأرض ليعمرها بالتكاثر. والإبن يقوي العلاقة بين الزوج والزوجة تماماً كما يقوي التراث العلاقة بين الجغرافية والتاريخ، ويضفي على حياتهما البهجة والسرور ويشكل لهما امتداداً على هذه الحياة الدنيا وهو الدافع الى السكن، والمقوي لروابط الرحمة والمودة بين الزوجين بالإضافة الى روابط الغريزة الفطرية بينهما ويشدهما الى بعضهما حتى في أوج الخلاف بينهما والفراق ، فإن تعرضت الإبن لمكروه يجمع والديه وجهاً لوجه إن اتفقا على الفراق وعدم اللقاء. والتراث هو زينة الحياة الدنيا تماماً كما هم الأبناء وصدق الله العظيم عندما قال في كتابه العزيز "المال والبنون زينة الحياة الدنيا".
*** *** ***
وحتى تكتمل المواطنة والوطنية وصناعة وبناء الأوطان، لا بد من اكتمال الأضلاع الثلاثة للمثلث ، الجغرافيا والتاريخ والتراث وربط هذه الأضلاع الثلاثة بروابط قوية، وكل شعب يفتقد الى أي ضلع من هذه الأضلاع لا يستطيع صناعة الأوطان وتثبيتها على امتداد التاريخ مهما تسلح بعوامل القوة الظالمة، وحقيقة الأمر فإن الشعب الفلسطيني يمتلك هذه الأضلاع الثلاثة كاملة متكاملة، ففلسطين التاريخية هي جغرافيته منذ القدم ، لذلك فهو يملك التاريخ القديم على هذه الأرض بإثبات أثره وآثاره عليها وأثرها وآثارها عليه ، حيث غزاها أقوام وأعراق مختلفة واحتلت من امبراطوريات متعددة ، وذلك في سياق معادلة متغيرات فيها ثابت واحد هو بصمته ووشمه لهذه الأرض. فرحل عنها العابرون وبقي فيها سكانها الأصليون منذ القدم ولم يغادروها، وإن غادروا لأي سبب كان، عادوا اليها أو استشهدوا في محاولة العودة المستميمة ، فهم يملكون تراثاً مرتبطاً بهذه الجغرافيا وتاريخها المديد وما زالوا يحتفظون به رغم كل محاولات الطمس والسرقة والسطو، أما الصهاينة الذين سرقوا هذه الأرض وشردوا شعبها فهم لا يملكون مقومات بناء الوطن الكامل المتكامل والثابت، فضلع التاريخ ناقص من مثلث الوطن القومي الذي يدعون، وضلع التراث ناقص، فلا تراث لهم يجمعهم ويوحدهم كشعب متجانس، فهم مجموعات من شتات الأرض وكل مجموعة تنتمي الى تراث مختلف أو نقيض للآخر ، وعقيدتهم محرفة انقسموا عليها الى فرق متفرقة ، وهم يعيشون الآن على ضلع الجغرافيا فقط يتأرجحون عليه كالمشي على الحبال ، يثبتهم عليه ميزان القوة المختل وميزان القانون غير العادل في أيدي الطغاة والذي يقيس بمكيال الباطل وترجح فيه كفة الباطل على كفة الحق، فكل محاولات التنقيب والبحث عن آثارهم على هذه الأرض ليضيفوا ضلع التاريخ باءت بالفشل ، فالتاريخ شاهد ضدهم وشاهد لمصلحة الفلسطينيين، والجغرافيا حصلوا عليها بالسطو والسرقة والظلم والجريمة التي تناقضها كل الشرائع السماوية والوضعية. إنهم يعيشون على هاجس الأمن ، شعب كاملٌ تحت الخدمة العسكرية، شعب تربى على الخوف من الآخر وعدم التعايش معه وبالتالي كره الآخر وحقد عليه، شعب فاقد للثقة بالآخر، ينام قلقاً وخائفاً ومدججاً بالسلاح ، يفتقد للإستقرار والهدوء، وفاقد الشيء لا يعطيه، ويعيش في دوامة من الحروب واختلاق الفتن والأباطيل وزرعها في محيطه بين الجيران القريبين والبعيدين. لكي يضمن لنفسه البقاء في هذا البحر اللجي.
من هنا علينا كفلسطينيين التمسك بالتراث والتاريخ ورقعة الجغرافية التي نعمرها في أرجاء الوطن، لنتمكن من استعادة قاعدة الجغرافيا التي سرقت منا بالكامل. ولكن جزءاً منا ما زال متشبثاً بطرف هذه القاعدة الجغرافية يناشدون دعمهم والإلتفاف حولهم بالوحدة والتوافق، وعلينا توريث تاريخنا وتراثنا ونقله الى الأبناء والأحفاد، فما يجمعنا الكثير وما يفرقنا القليل، وما يجمعهم القليل النادر وما يفرقهم الكثير، ولكن ولسوء حظنا أصبحنا نحن المفرقين وهم المتجمعون على فرقتنا فقط ، ولا يملكون أي جامع أو رابط غير ذلك ، فهل من متفكر متدبر ومخلص ووفي لوطنه وتاريخه وتراثه؟ فالتاريخ لصالحنا والجغرافية بمعالمها وشواهدها تشهد بهويتنا والتراث الذي يسم هذه الأرض هو تراثنا. لهذا فالوطنية الفلسطينية بعوامل قوتها هي العريس المناسب لهذه الجغرافية التي اغتصبت من الغرباء في غفلة من التاريخ.
أحمد ابراهيم الحاج
9/6/ 2009
مواقع النشر (المفضلة)