خلافات الزوجين.. الصغار يدفعون الثمن
استوقفتني كلمات تقطر مرارةً لطفلٍ صغيرٍ لم يتعدَّ السابعةَ من عمره يشتكي فيها قسوة والديه، صوت عالٍ، ضربٌ له ولأمه ولإخوته، خلافات وشجار دائم بين والديه، الأم عصبية متوترة دائمًا، لا تفاهم لا حبَّ ولا احتواءَ، ولا دفءَ ولا أمان.
إحساسٌ بالخوف والضياع، رغبةٌ في التخلص من الحياة، فما قيمةُ الحياة أو جمالها في نهارٍ يُطوى في حزنٍ وضيقٍ ونكد، وليل يُسدل ستائره على عيونٍ باكية وقلوبٍ حزينة؟!
حقًّا إن هدم الأسرة وتشريد الأطفال لا يكون فقط بالحروب والمجاعات والخلافات السياسية، إنما هناك ما هو أقسى وأشد من ذلك، وهي الخلافات الزوجية والتفكك الأسري الذي يؤدي إلى تشريد الصغار وجروح للكبار ومشاكل متتالية وهموم متلازمة وتفكيرٍ لا ينقطع في الهروب من الواقع، وقد يصل الأمر بالأبناء إلى الانحراف عن جادةِ الطريق، وأحيانًا التفكير في الانتحار، والتخلص من الحياة.
فأين الآباء والأمهات من هذا المصير الذي ينتظر أبناءهم؟
هل ينسون كل هذا عندما تجرفهم موجة الأنانية وحب الذات؟ فالأب والأم سبب تطور أي مشكلة أو خلاف سواء كانت من طرفهم أو من طرف أبنائهم، وأثر ذلك لا يعود فقط على الأسرة، بل يعود على المجتمع كله، وعلى مستقبل أمتنا الإسلامية الذي يعتبر الأسرة الركيزة الأساسية لبناء مستقبلٍ إسلامي حضاري متين البنيان والأركان.
ابني يواسيني
تقول أم عبد الرحمن- لديها ثلاثة أطفال-: مشاكلي مع زوجي بدأت منذ بداية زواجنا، ووصلت إلى حدِّ الضرب والإهانة والطرد من المنزل والتهديد بالطلاق، وبالطبع كان لها أسوأ الأثر على الأبناء، فابني الأكبر 9 سنوات عنيد جدًّا ويُقلِّد أباه في كثيرٍ من تصرفاته الخاطئة ويتلفظ بنفس الألفاظ وكثيرًا ما يسرح بخياله وأحيانًا يواسيني بكلماتٍ تُمزِّق قلبي عندما يشاهد أباه يضربني.
أما ابنتي 7 سنوات فقد أُصيبت بحالةٍ من اللعثمة في الكلام، وابني الأصغر عصبي جدًّا، ورد فعله عنيف تجاه المواقف والأفعال حتى أثناء اللعب.
طفلتي عصبية
وتعترف أم نورا- لديها طفلتان- بأنها السبب في المشاكل الزوجية وخلافاتها مع زوجها بسبب عصبيتها الشديدة وصوتها العالي ورد فعلها الشديد حتى مع الأطفال، وقد تأثَّرت ابنتاها بالفعل بهذا الجو المتوتر واكتسبتا العصبية والبطء، وعدم التوافق بسهولة، أو الاندماج مع الأطفال الآخرين، وكذلك العدوانية وعدم الهدوء.
أطفال الطلاق
الطلاق يؤثر بالسلب على مستقبل الأطفال
وتقول أم محمد- لديها ولد وبنت-: بعد مشاكل كانت لا تنتهي مع زوجي استمرت 15 سنةً، حدث الطلاق والذي قاومته بكل الطرق حتى لا تتفكك الأسرة ويضيع الأبناء، وهذا بالفعل ما حدث، فبعد أن كان ابني الأكبر متفوقًا في دراسته، محبوبًا من أصدقائه، اجتماعيًَّا مع الناس، انقلب إلى النقيض فأصبح متأخرًا في دراسته، يرسب في بعض المواد، أُصيب بالانطواء والعدوانية ويجلس شاردًا طوال الوقت، أما أخته الصغرى 10 سنوات، فأُصيبت بالتبول اللاإرادي، وأصبحت تكذب وتتغيب كثيرًا عن المدرسة مدعيةً المرض حتى قلَّ مستواها إلى حد كبير، فعلى الرغم من المشاكل التي كانت بيننا فكنتُ أحرص على توفير جوٍّ من الهدوء والراحة لهما وإبعادهما قدر المستطاع عن مشاهدة أي شجار يحدث، لكن الطلاق كان صدمةً زلزلت كيانهما، وغيَّرت الحياةَ في عيونهما وقلبيهما.
فتاة مدللة
ريم (20 سنة) تقول: لا أظن أن الخلافات والتفكك الأسري فقط هو الذي يؤدي إلى هدم الأسرة وضياع الأبناء، فأنا فتاة من أسرةٍ ثريةٍ ومدللة للغاية، وكل طلباتي مجابة، ولكنها أسرة بلا أب أو أم، فأنا لا أجدهما حتى عند حاجتي الشديدة إليهما، وأفتقد بغيابهما عني وإهمالهما لي الأمانَ والإحساسَ لدفء الأسرة، واحتوائها، مما أدَّى إلى مصاحبة رفاق على مثل شاكلتي، وحدث ولا حرج عندما يلتقي الشباب والمال والفراغ وإهمال الأهل وغياب القدوة والافتقار إلى التربية والتقويم فلا تجد سوى الضياع والانحراف.
لا للضرب
وقد أشارت دراسة أجراها د. عدلي السمري- أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس- وصدرت عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية إلى أن 96% من الآباء الذين يضربون أبناءهم تعرضوا للضرب في الصغر، وتوصلت الدراسة إلى أن ضرب الآباء لأبنائهم وتعنيفهم المستمر لهم يربي لديهم عقدًا نفسيةً بل ويزيد من العنف الأسري.
كما أنه يتفاقم ويمثل مشكلةً من الصعب مواجهتها إذ يتحول العنف من الأسرة إلى المجتمع، وقد أكد علماء النفس والاجتماع أن ضرب الأبناء يُغذي بداخلهم الأمراض النفسية ويمحو شخصية الأجيال.
ولا يقتصر الأمر على الضرب فقط إنما عندما ينمو الأبناء في جو مشحون بالتوتر والعنف والعصبية وعدم التوافق أو التفاهم بين الوالدين يحدث بداخلهم تصدعًا نفسيًّا ووجدانيًّا من الصعب تقويمه.
وقسَّمت الدراسة الإساءة في حق الأبناء إلى ثلاثة أنواع: إساءة عاطفية تتمثل في التقليل من شأن الطفل، وحرمانه من الحب، والعطف، وإساءة جسمية تتمثل في الضرب، والانتهاكات الجنسية من الأقارب، أو الغرباء، وكذلك تعريض الطفل لمشاهدة صور إباحية في صغره، ثم الإهمال بأنواعه، مؤكدةً أن أكثر أنواع الإساءات التي يتعرض لها الطفل هي الإساءة العاطفية الجسدية التي تتمثل في الضرب الذي يصاحبه توبيخ.
وكذلك العنف الأسري والاجتماعي ويعتبر أكثرها شيوعًا كحرمان الطفل من حقوقه، والعنف السافر كالتوبيخ الكلامي، والعنف المقنع كتجاهل الطفل والانشغال عنه.
وذكرت الدراسة أن الاعتداءات الأشد تأثيرًا على الطفل هي الاعتداءات النفسية كعدم وعي الأهل بمشاكل أبنائهم وعدم إعطائهم فرصةً للتعبير عن أنفسهم والترويج الهادف البناء وعدم فهم طبيعة كل مرحلة من حياتهم والتعامل معهم على أساس خصائص هذه المرحلة.
وكذلك فإن اهتمام الآباء بالعمل وانصرافهم عن رعاية الأبناء أحدث نوعًا جديدًا من التفكك الأسري؛ حيث لم يأخذ الأبناء الجرعةَ الأخلاقيةَ والتربوية والنفسية والاجتماعية اللازمة التي تحميهم من شرور البيئة الخارجية والمجتمع.
ومن أشكال العنف والتفكك الأسري أيضًا ضرب الزوجة وتعنيفها أمام الأبناء، أو في غيابهم، فقد أوضح المسح الديمجرافي في مصر، والذي أجرى منذ عدة سنوات على 147 ألفًا و779 امرأةً أن نسبة تتراوح بين 43، 46% من النساء المتزوجات سواء الأميات أو المتعلمات تعرضن للضرب في حياتهن الزوجية و45% منهن تعرضن للضرب على الأقل مرةً واحدةً في العام السابق للمسح و17% منهن تعرضن للضرب 3 مرات و39% احتجن رعايةً طبيةً ونفسية، وثلثهن تم ضربهن أثناء الحمل مما سبب لهن وللأبناء آثارًا نفسيةً عميقةً؛ حيث يحدث الضرب شرخًا فظيعًا في نفسية الزوجة لا تمحوه الأيام، ويؤثر كذلك على العلاقة الزوجية، وعلى صورة الأب في عيون أبنائه فتختل بذلك القدوة ويضيع الإحساس بالأمان.
الطلاق والأمراض النفسية
أما الطلاق الذي يصفه مختصو الأمراض النفسية بأنه من أصعب الحالات التي يمر بها الإنسان، فهو يرى أمامه حياةً تنتهي وكيانًا يتهدم؛ مما يصيب الأسرة بالأمراض النفسية والجسدية والاجتماعية.
وتشير الأبحاث والدراسات إلى أن الطلاق له انعكاساته السلبية العديدة التي يتحملها الأطفال الصغار، وعلى الرغم من أن الأطفال دون الخمس سنوات لا يدركون معنى أو مفهوم الطلاق، كما يشير مختصو الطب النفسي غير أنهم يتأثرون بشكلٍ كبيرٍ بسبب انفصال الوالدين، أو لسوء العلاقة التي تنشأ بين الوالدين بسبب الطلاق أو لأسباب أخرى.
ويعاني الأطفال الذين ينشأون في أسرةٍ مفككةٍ، وينتهي الأمر بها إلى الطلاق من اضطرابات نفسية، وسلوكية عديدة كالخوف، والقلق، والعصبية، والعناد، والشعور بالوحدة والانطواء والاكتئاب والتوتر النفسي واضطرابات النوم والكوابيس والسلوك العدواني تجاه أفراد العائلة، والآخرين، والكذب، والسرقة، والتأخر الدراسي، والمشاكل الدراسية في المدرسة؛ كما تتدهور حالتهم الصحية فيعانون من التبول اللاإرادي وآلام المعدة والأمعاء والصداع المستمر.
وفي مرحلة المراهقة قد ينحرف الأبناء أخلاقيًّا ومجتمعيًّا، وقد يصل الأمر بالبعض منهم إلى محاولة الانتحار، والتخلص من الحياة كما قرأنا في الآونة الأخيرة.
اضطرابات سلوكية
أطفال الأسر غير المستقرة أكثر عرضةً للإصابة بالأمراض النفسية!!
وتؤكد د. عزة كريم- أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية- أن من أكثر المسئوليات خطورةً إيذاء الطفل داخل الأسرة، سواء الإيذاء المادي الذي يتمثل في الضرب، وإحداث ضرر جسماني به مثل إهمال الرعاية الصحية والجسدية، أو الإيذاء المعنوي الذي يتمثل في إحداث ضررٍ نفسي، ووجداني والذي يعود على الطفل من جرَّاء الخلافات والمشاكل بين الزوجين كضرب الزوجة، والإهانة، والعصبية، وانعدام التفاهم والمودة، والشجار الدائم، وصولاً إلى الطلاق الذي يمزق أوصال الأسرة والمجتمع بأسره.
وقد أشارت دراسة جديدة أُجريت في البحرين إلى أن الأزواج الذين كانوا ضحايا اعتداءات نفسية، وجسدية في الطفولة هم أكثر ميلاً للعنف الأسري وأن هناك علاقةً وثيقةً بين سوء معاملة الأطفال في الصغر، والعنف الأسري، وأكدت الدراسة ارتفاع معدل الخلافات الزوجية وتأثير ذلك على الأبناء.
وأوضحت الدراسة التكلفة المادية الباهظة التي تنتج من جرَّاء الإساءة للأطفال، والتي قدرت بأكثر من 10.5 مليارات دولار؛ حيث أشار التقرير السنوي لوثيقة حقوق الطفل الأمريكية إلى أن التكلفة المباشرة للإساءة للأطفال تشمل 6 ملايين دولار للعلاج الإكلينيكي و425 مليون دولار للعلاج النفسي و24 مليون دولار للتحقيق من مباحث الشرطة، فيما تشمل التكلفة غير المباشرة 4.5 ملايين دولار للرعاية النفسية.
وفي السعودية أشارت إحصائية إلى اكتشاف 300 حالة أو أكثر من أطفال المملكة يعانون من اضطرابات سلوكية مستمرة منهم 150 من طلبة المدارس، وهذه الاضطرابات نتيجة العنف، والتفكك الأسري وتتمثل في نقص الانتباه وزيادة الحركة والعدوانية وعدم التأقلم مع أقرانه ومع المجتمع.
كلمة السر
ويقول د. حمدي يس- أستاذ علم النفس الاجتماعي والصحة النفسية جامعة عين شمس-: إن الإنسان تلده أمه وليس له سوى ميراث بيولوجي، ومع ميلاد الطفل تبدأ عملية التلقين، والتهذيب، والتشكيل، والتعليم، والنضج في كافة مراحل نموه العقلي، والحسي، والجسدي، والنفسي، والوجداني، والانفعالي، وكل ذلك يتم بفعل الأسرة.
وكلمة السر في نجاح الحياة هي توافر الحب الأسري، وهي أساس لعملية النمو السليم لأفراد الأسرة، أما الأسر التي تفككت أي حدث لها نوع من التحلل والانحلال لأبعاد الأسرة وأركانها فلن تقوم بوظيفتها الأساسية، وهي تربية وإعداد إنسان سوي، فوظيفة الأسرة لا تتمثل في الإنجاب فقط، وإشباع الحاجات المادية للأبناء من المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن إنما لها وظائف أكثر أهمية من ذلك، وهي تحويل هذا الكائن البيولوجي إلى كائن اجتماعي أخلاقي سياسي.
والأسرة هي التي تلبس هذا الإنسان ثيابًا مختلفةً لكافة الأنشطة، وكل نشاط له ثوبه الخاص به، إذا لم يلبسه المرء لأصبح في حالةٍ من العداء الذي يُمثِّل خطوةً في وفاة هذا الكائن من الناحية الاجتماعية والنفسية.
ويضيف: إن الحياة السوية لا يمكن تحقيقها إلا إذا توافرت أركان أسرية وطيدة يحفها الحب، والتواد، والرحمة، والتواصل، والحميمية، والذكاء والوجداني؛ مما يحدث نوعًا من الاستقرار النفسي، ومن يحقق الأمان والطموحات والتطلعات والأحلام والأهداف ومن يجعل هذا الكائن البيولوجي إنسانًا اجتماعيًّا سوي غير أسرة صادقة متحابة متماسكة.
أي أن الأسرة تقوم بعملية أنسنة هذا الكائن البيولوجي؛ أي تحوله من مخلوق بيولوجي له حاجاته المادية فقط إلى إنسان له أهداف ومشاعر وأفكار وأحاسيس وعلاقات اجتماعية سوية ومتنوعة مع الغير وخبرات وأنشطة مختلفة.
قنبلة موقوتة أو قيود حريرية
ويؤكد د. حمدي يس أن الأسرة المتماسكة قوامها الانسجام والتوافق والحب بين الزوجين، وجاءت من كلمة أسر يأسر، أي قيده داخل قيود وأحكام الأسرة، ولكنها ليست قيودًا حديديةً إنما هي قيود حريرية من الحب والوفاء والأمان والمودة.
فإذا غاب الآباء يتأثر الأبناء وتتفكك الأسرة، فمن الناحية المعرفية يتدنى مستوى التحصيل، والذكاء، ويحدث التشتت، وعدم التركيز، وضعف الذاكرة، ومن الناحية الاجتماعية تنفك الأوصال الأسرية، والمجتمعية، وينتمي كل فرد إلى جماعة شللية لا تدري لهم هدفًا ولا غايةً فلا ولاء، ولا انتماء لقيم، أو مثل عليا.
ومن الناحية النفسية ينشأ لديهم سلوك انفعالي يتسم بالعدوان والتمرد والعنف بل، يصبحون قنابل موقوتة قد يكون انفجارها أولاً في وجه مَن أشعلها.
مواقع النشر (المفضلة)