قصة الفيل
كان "أبرهة بن الصباح" عاملا للنجاشي ملك الحبشة على اليمن، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة فبنى كنيسة بصنعاء. ، وسميت هذه الكنيسة القليس 1 لارتفاع بنائها وعلوها.
وكان "أبرهة" قد استذل أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة وجشّمهم فيها أنواعا من السخر، وكان ينقل إليها العدد من الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر "بلقيس" صاحبة "سليمان - عليه السلام -" وكان في موضع هذه الكنيسة على فراسخ وكان فيه بقايا من آثار ملكها ، فاستعان بذلك على ما أراده في هذه الكنيسة من بهجتها وبهائها ، ونصب في تلك الكنيسة صلبانا من الذهب والفضة ومنابر من العاج والآبنس وكان أراد أن يرفع في بنائها حتى يشرف منها على عدن.
وكان حكمه في أي عامل إذا طلعت عليه الشمس قبل أن يأخذ في عمله أن يقطع يده، فنام رجل منهم ذات يوم حتى طلعت الشمس فجاءت معه أمه وهي امرأة عجوز فتضرّعت إليه تستشفع لابنها ، فأبى إلا أن يقطع يده
فقالت: اضرب بمعولك اليوم فاليوم لك ، وغدا لغيرك.
فقال: ويحك ما قلت؟.
فقالت: نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك ، فكذلك يصير منك إلى غيرك.
فأخذته موعظتها ، وأعفى الناس من العمل فيها بعد.
وكتب إلى "النجاشي": إني بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب
فسمع به رجل من بني كنانة، فدخلها ليلا، فقعد فيها2. ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر بذلك "أبرهة" فقال: من صنع هذا؟
فقيل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك " أصرف إليها حج العرب " غضب فجاء فقعد فيها.
أي أنها ليست لذلك بأهل .3
فحلف "أبرهة" ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها. وكتب إلى "النجاشي" يخبره بذلك، فسأله أن يبعث إليه بفيله. وكان له فيل يقال له: محمود، لم يُرَ مثله عظما وجسما وقوة، فبعث به إليه. فخرج "أبرهة" سائرا إلى مكة . فسمعت العرب بذلك فأعظموه، ورأوا جهاده حقا عليهم.
فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له "ذو نفر" ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب "أبرهة" وجهاده عن بيت الله الحرام وما يريد من هدمه وإخرابه فأجابه إلى ذلك من أجابه ثم عرض له فقاتله فهزم "ذو نفر" وأصحابه، فأتي "بذي نفر" أسيرا، فلما أراد قتله قال له "ذو نفر": أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي.
فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق وكان أبرهة رجلا حليما.ثم مضى على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم، فعرض له "نفيل بن حبيب الخثعمي"، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأُخذ له "نفيل" أسيرا، فأتي به فلما هم بقتله قال له "نفيل":
أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقني خيرا لك.
فاستبقاه. وخرج معه يدله على الطريق فخلى سبيله .
فلما مر بالطائف خرج إليه "مسعود بن معتب" في رجال من ثقيف.
فقال له: أيها الملك، نحن عبيدك. ونحن نبعث معك من يدلك.
فبعثوا معه بـ أبي رِغال مولى لهم. فخرج حتى إذا كان بالمُغَمّس مات "أبو رغال"، وهو الذي يرجم قبره. وبعث أبرهة رجلا من الحبشة - يقال له: "الأسود بن مفصود" على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نَِعَم الناس (الإبل والمواشي). فجمع "الأسود" إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.
ثم بعث أبرهة رجلا من حمير إلى أهل مكة ، فقال: أبلغ شريفها أنني لم آت لقتال، بل جئت لأهدم البيت. فانطلق، فقال لعبد المطلب ذلك.
فقال عبد المطلب : ما لنا به يدان. سنخلي بينه وبين ما جاء له. فإن هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه. وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به من قوة.
قال: فانطلق معي إلى الملك - وكان "ذو نَفَر" صديقا لعبد المطلب، فأتاه،
فقال: يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا؟
فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيا، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه لي صديق، فأسأله أن يعظم خطرك عند الملك.
فأرسل إليه، فقال لأبرهة : إن هذا سيد قريش يستأذن عليك. وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف لأمرك، وأنا أحب أن تأذن له.
وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما. فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه. وكره أن يجلس معه على سريره. وأن يجلس تحته. فهبط إلى البساط فدعاه فأجلسه معه. فطلب منه أن يرد عليه مائتي البعير التي أصابها من ماله.
فقال أبرهة لترجمانه، قل له: إنك كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك.
قال: لِمَ؟
قال: جئت إلى بيت - هو دينك ودين آبائك، وشرفكم وعصمتكم - لأهدمه. فلم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير؟
قال: أنا رب الإبل. والبيت له رب يمنعه منك.
فقال: ما كان ليمنعه مني.
قال: فأنت وذاك.
فأمر بإبله فردت عليه.
ثم خرج وأخبر قريشا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رؤوس الجبال، خوفا عليهم من مَعَرَّة الجيش. ففعلوا. وأتى عبدُ المطلب البيتَ. فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
يا رب لا أرجو لهم سواكا................يا رب فامنع منهمو حماكا
إن عدو البيت من عاداكا................فامنعهمو أن يخربوا قراكا
وقال أيضا:
لا هُمَّ إن المرء يمنع رحله................وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم................ومحالهم غدوا محالك
جرّوا جموع بلادهم................والفيل كي يسبوا عيالك
كنت تاركهم وكعب................تنا فأمْرٌ ما بدا لك
ثم توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه. وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول. وعبأ جيشه. وهيأ فيه. فأقبل "نفيل" إلى الفيل. فأخذ بأذنه.
فقال: ابرك محمود. فإنك في بلد الله الحرام.
فبرك الفيل، فبعثوه فأبى. فوجهوه إلى اليمن ، فقام يهرول. ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق ففعل ذلك. فصرفوه إلى الحرم فبرك. وخرج "نفيل" يشتد حتى صعد الجبل، فأرسل الله طيرا من قبل البحر مع كل طائر ثلاثة أحجار. حجرين في رجليه وحجرًا في منقاره. فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم. فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك. وليس كلَّ القوم أصابت. فخرج البقية هاربين يسألون عن "نفيل" ليدلهم على الطريق إلى اليمن . فماج بعضهم في بعض. يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل. وبعث الله على أبرهة داء في جسده. فجعلت تساقط أنامله حتى انتهى إلى صنعاء وهو مثل الفرخ. وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
ومزقت الحبشة كل ممزق وأقفر ما حول هذه الكنيسة فلم يعمرها أحد ، وكثرت حولها السباع والحيات وكان كل من أراد أن يأخذ شيئا منها أصابته الجن ، فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من المال لا يستطيع أحد أن يأخذ منها شيئا.4
في ذلك العام ولد النبي عليه الصلاة والسلام بمكة، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
-----------------------------------------
1- ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس ويقال تقلنس الرجل وتقلس إذا لبس القلنسوة وقلس طعاما أي ارتفع من معدته إلى فيه2
2- أحدث فيها (تغوّط)
3- قال ابن إسحاق : فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها - قال ابن هشام : يعني أحدث فيها - قال ابن إسحاق : ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فقال من صنع هذا ؟ فقيل له صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك : " أصرف إليها حج العرب " غضب فجاء فقعد فيها ، أي أنها ليست لذلك بأهل . فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم سار وخرج معه بالفيل وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه وفظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة ، بيت الله الحرام .
4- واستمر هذا إلى زمن أبي العباس فذكر له أمرها ، وما يتهيب من جنها وحياتها ، فلم يرعه ذلك. وبعث إليها بابن الربيع عامله على اليمن معه أهل الحزم والجلادة فخربها ، وحصلوا منها مالا كثيرا ببيع ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها ، فعفا بعد ذلك رسمها ، وانقطع خبرها ، ودرست آثارها ، وكان الذي يصيبهم من الجن ينسبونه إلى كعيب وامرأته صنمين كانت الكنيسة عليهما ، فلما كسر كعيب وامرأته أصيب الذي كسره بجذام فافتتن بذلك رعاع اليمن وطغامهم وقالوا : أصابه كعيب وذكر أبو الوليد الأزرقي أن كعيبا كان من خشب طوله ستون ذراعا .
مواقع النشر (المفضلة)