في حكاية شجية عاشها الملايين، تستحيل الجامعة البيت الثاني، وربما الأول للطالب الجامعي، فهو يقضي فيها من الوقت أكثر من ذاك الذي قد يقضيه في بيته. إنها تتجذر عميقاً في حنايا قلبه، فتستوطن بصداقاتها ومحاضراتها وقاعاتها وردهاتها وطرقاتها ومكتباتها وملاعبها وحدائقها خلايا ذاكرته إلى الأبد، ليغدو جزءاً أصيلاً منها، وتغدو جزءاً أصيلاً منه!
ولأن لكل بداية نهاية، ليس للطالب إلا أن يتم دراسته ويتخرج من الجامعة، حاملاً معه ذكريات آسرة كثيراً ما يدرك متحسراًً أنها أجمل ذكريات عمره. وبمجرد أن ينهي الطالب إجراءات تخرجه من الجامعة، أو لفظه بالأحرى كما سيتبين لنا ـ والحديث هنا يطال الجامعات الأردنية الحكومية على وجه الخصوص، وربما الكثير من جامعاتنا العربية البائسة ـ تعمد الإدارة لأسباب مجهولة إلى تجريده من هويته الجامعية، في إشعار له بأن عرى علاقته بجامعته قد انفصمت إلى الأبد، وأنه بات شخصاً غير مرحب به للدخول إليها، وأن عليه فيما إذا أراد زيارتها لاحقاً أن يقف ببابها ذليلاً منكسراً، وأن يلجأ إلى مكتب أمني على مدخلها ـ يذكر بأماكن التحقيق ـ للحصول على تصريح قصير الأمد، وكأنه كائن مشبوه ودخيل، وكأنه ليس ابنها الشرعي، وليس الشخص نفسه الذي كان يسهم حتى عهد قريب في كتابة تاريخها، كمكون أساسي من مكونات بنيتها!
وإذا ما دفعت الحاجة المرء يوماً لأن يمرّ على الجامعة لأمر ما بعد تخرجه، يصدمه الحراس الغلاظ الشداد على بواباتها بوجوه متجهمة قدت من حجر، وبدلاً من التبسم في وجهه واستقباله بعبارات التأهيل والترحاب، فإنهم يحدجونه بنظرات استنكارية تفتش عن هويته الجامعية، وكأنه غير جدير بالتمتع بشرف الدخول، أو حتى بمعاملة إنسانية ودودة، ما لم يحمل مثل تلك الهوية!
أنا مثلاً رجل قضى في أحضان الجامعة الأردنية أكثر من عشرة أعوام، طالباً وباحثاً، ولا أظن بأن مظهري يوحي بأنني "إرهابي" أو "أزعر" يقصد الجامعة بهدف العبث أو التخريب! وعندما يستدعيني شأن ما لزيارتها، كثيراً ما ينقض عليّ الكواسر على بواباتها بتساؤلاتهم الفظة وبدون مقدمات: "وين رايح!؟"؛ "هويتك أبو الشباب!؟" هؤلاء الذين كان معظمهم يلعب في الحارة عندما كنت طالباً فيها!
بالمناسبة، ما تزال نقودي مودعة في بنك يقع ضمن حدود الجامعة، فهل من المنطق والتحضر واحترام حريتي في شيء أن يُفرض عليّ استجداء الإذن من حضرات السادة الحراس كلما هممت بمراجعة بنكي لأمر ما!؟ إن من مظاهر الإهانة في الأمر، وهي كثيرة، أن الحراس قد يمنحونك "شرف الدخول"، بعد أن تشرح لهم سبب زيارتك طبعاً، وكأنهم يتعطفون عليك، وهذا يبدو جلياً في تعابير وجوههم وإيماءات أيديهم وكلماتهم المقتضبة، فتراهم يتصرفون وكأنك تحاول دخول بيوت آبائهم، وليس دخول مؤسسة عامة نتشدق بأن من أهدافها الرئيسة خدمة المجتمع!
في عالم الغرب ـ وإدارات جامعاتنا تعرف ذلك حتماً ـ لكأن الجامعات أماكن سياحية ترحب بالناس وتحتفي باستقبالهم، دون هويات أو تفتيش أو مظاهر بغيضة تذكّر بأجواء المعتقلات! بل إن جامعة أكسفورد الشهيرة قد ألغت الرقابة على حقائب الخارجين من مكتباتها! فأين جامعاتنا من ذلك!؟
وعلى سيرة الغرب وأهله، سأروي لكم هذه القصة المخجلة: قبل مدة، زارني في عمان مستعرب إسباني، وفي أثناء تجوالنا في شوارع المدينة تصادف أن مررنا قريباً من الجامعة الأردنية، التي تهربت من دعوته إلى زيارتها خوفاً من أن يحرجنا الأشاوس على بابها فيرفضون السماح لنا بالدخول، إلا بعد إخضاعنا لإجراءات بوليسية تفضح تخلفنا المعيب! لسوء الحظ، أبدى الضيف رغبته في أن يلتقط صورة تذكارية للقباب البيضاء الشهيرة على بوابة الجامعة، وبدأ يجهز آلة التصوير خاصته لفعل ذلك، فإذا بأحد الحراس المكفهري الوجه يقترب منا، وينذرنا بأن التصوير ممنوع! ارتبك صديقي الإسباني ونظر إليّ نظرة تقطر بالامتعاض والإحساس بالصدمة، فقد بدا لكلينا، وبوضوح، تفاهة مثل ذلك الموقف وعبثيته، فهل غدت الجامعة موقعاً عسكرياً محظوراً حتى تصدر الأوامر بمنع تصوير بواباتها، علماً بأن من السهل جداً أن يلتقط المرء صورة واضحة تماماً لتلك القباب من نافذة إحدى المطاعم المقابلة مباشرة لبوابة الجامعة!
إن على الجامعة، وهي التي يدفع لها المواطن ضريبة جبرية يقتطعها من قوته أن تكون بيتاً حانياً له، يدخلها بلا استئدان، كما لو كان يدخل بيتاً من بيوت الله! أو لم تكن بيوت الله في تاريخنا هي نفسها بيوت العلم!؟ أما الرقابة، وذلك لمن يصر على القول بضرورتها، فينبغي أن تكون رقابة بعدية لا قبلية، أي بعد أن يطأ المرء أرض الجامعة لا قبل أن يدخلها، فالإنسان بريء حتى يثبت العكس!
وعلى أية حال، فإنني لا أنادي بتجريد عناصر الأمن الجامعي من سلطة تتبع ومساءلة من يثير الشبهات أو يخرق الأعراف والقوانين بسلوك منحرف، فهذا ضروري لحماية حرمة الجامعة والحفاظ على أمنها، أما إيصاد أبوابها في وجوه الناس ومطالبتهم باستصدار الأذون "العصملية" لدخولها، ومعاملتهم وكأنهم يودون الدخول إلى مصنع للأسلحة، فإنها مظاهر رجعية وعرفية توحي بالاتهام المسبق والضمني لهم!
وأخيراً، بدلاً من أن تحرص جامعاتنا العتيدة على إغلاق أبوابها أمام الناس، أظن أن عليها أن تحرص على إعادة النظر في أوضاعها بصورة جذرية، وعلى استعادة ثقة الناس بها، عبر التواصل معهم والانفتاح عليهم والإسهام الجدي في تثقيفهم والارتقاء بوعيهم العلمي والأخلاقي والإنساني، لعل ذلك يشكل مدخلاً من مداخل تجاوز حالتها الراهنة المزرية، التي تبدو وفقاً لها مجرد مؤسسات هزيلة معزولة، يتورط بعضها في تنظيم حفلات تافهة لمغنين رقعاء، ولا تكاد تُذكر إلا من باب التعريض بما تشهده من تنافس طالباتها على استعراض أزيائهن المتهتكة، وانهماك طلبتها التائهين في مشاجرات عصبية همجية، وانغماس بعض أساتذتها في التخطيط للإيقاع بالطالبات!
إنني حقاً لا أملك إلا أن أتساءل بقهر: لماذا نصر على التشبث بمظاهر بائدة تهشم كل ما أحرزناه من تقدم وتؤكد بأننا ما نزال ننتمي في حقيقة الأمر إلى ما يسمونه "العالم المتخلف"!؟
د. خالد سليمان
مواقع النشر (المفضلة)