في الكرك
الكاتب: بهاء المعايطه
كنت في "الكرك" قبل ايام ، ازورها واحبها ، كثيرا ، ففيها سر غريب ، هي "الكرك" شقيقة "القدس" ، وهي "الكرك" التي فيها خيل المسلمين ، التي صهلت ذات يوم ، ومعهم خيل الغساسنة ، والمسيحيون العرب ، الذين نصروا المسلمين ، في وجه الروم.
تحزن لأن مدينة كهذه ، لم تأخذ حقها جيدا ، وكل الكلام الذي تسمعه ، لا ترى مقابله سوى شوارع مفتوحة ، وجامعة مؤتة ، وترى خروجا متواصلا من الكرك الى عمان ، وكأن العاصمة هي الجنة ، رغم ان عمان هي ام الغلاء ، ولا احد يرد فيها السلام على آخر ، ولا احد يصبر على اخر ، حتى باتت مدينة لا نعرفها ، نهارها غير ليلها ، وتحزن لأن المال مكدس فقط في العاصمة ، ولا يعرف اغلبنا عن مدن ميمنة الطريق الصحراوي ، سوى يافطاتها ، وقلة تدرك اسرار هذه الاماكن وقيمتها.
مثل الكرك ، وفيها مقامات الصحابة ، وبئر مدين الذي وقف عنده موسى عليه السلام متعبا ، تستحق غير هذا ، فهي مدينة غنية ، لكنك ترى نصب شهداء مؤتة مهملا ، وارض المعركة غارقة بمخلفات الاغنام ، والزجاجات المكسورة ، وحين تذهب الى مقامات الصحابة ، ترى ان المكان شبه مهجور ، لولا المسجد الذي يصلي فيه عدد قليل ، ولا ترى اي جذب ممنهج لهكذا اماكن ، ولا خدمات فندقية ، وتتذكر ان دول عربية تبحث عن عظام بحار ، لتدعي ان هذا من اجدادهم ، فتنشئ متحفا ، وتخلق قصة تاريخية مزورة ، لتثبت وجود حبل سري بينهم وبين المكان ، الذي هم فيه ، فيما نحن نهمل هذه الاماكن ، فلا نأخذ اليها طالبا ، ولا نجعلها الا اماكن ذوى تاريخها ، والامر ذاته ينطبق على بئر مدين ، التي ما زالت تفيض بالماء البارد ، ولها في القرآن قصة.
مثل الكرك ، تستحق ان تكون عاصمة الجنوب ، فيتم اقامة مشاريع حيوية بها ، ويتم انعاشها ، ونقل كثير من النشاطات اليها ، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ، وهي اليوم كمدينة للثقافة الاردنية ، تغرق في اللوحات التي تبشر بكونها مدينة الثقافة ، لكنك تعرف في قرارة نفسك ، ان مكتباتها العامة قليلة ، ان لم تكن منعدمة ، ويأتيها الناس زوارا ، ويغادرون سريعا ، ولا ترى اي جهد حقيقي ، لجعلها مدينة فاعلة وحاضرة ، بوسائل عدة ، ولا يكفي ان نضحك على بعضنا البعض فنبقى نستذكر "الكرك" حين نتحدث عن "الجميد" وحسب ، وكأن مدينة بتاريخها ، تختزل تاريخها في هكذا مشهد ، خصوصا ، اننا بحاجة الى احياء للمدينة وقراها ، عبر خطة واضحة ومحددة ، تؤدي الى انتعاش اقتصادي فيها ، ونقل جزء من نشاطات الحكومة اليها ، كما في دول اخرى ، تجري نشاطات الحكومة في العاصمة وفي الاطراف ، ايضا ، بدلا من زيارات المجاملة للحكومات ، الى هكذا مدن ، تنتهي بمناسف عمانية.
ما الذي يمنع ان تكون هناك نشاطات سياسية في الكرك ، او اربد ، فحين يأتي وزير خارجية او ضيف اجنبي رفيع المستوى ، ان يتم استقباله في الكرك ، او اي مدينة اخرى ، كذات الانموذج السعودي ، لماذا تغيب مثل هذه المدينة ، عن الخريطة ، رغم انها مؤهلة لاعتبارات كثيرة ، ان تكون عاصمة ثانية او ثالثة للمملكة ، اقترحت ذات مرة على مسؤول رفيع المستوى بأن يكون هناك "بيت الدولة" في كل محافظة ، وهو بيت يستقبل المواطنين ، وينصفهم في حالات كثيرة ، ويكون جاهزا لاستقبال اي ضيوف ، ويكون سببا في توزيع "الحضور السياسي" على كل مناطق المملكة ، هل تريدون اقناعنا ان القصة توفير في النفقات ، او توفير في نفقات بنزين التنقل بين العاصمة وهكذا اماكن.. ليست هذه هي القصة ، بالتأكيد.
من مصلحة اي دولة ، ان تنتعش فيها مدن اخرى ، كذات العاصمة ، او اقل قليلا ، والدول الفاعلة ، تجعل الى جانب العاصمة ، عاصمتين اضافيتين ، من حيث الحضور ، والتأثير والتخطيط للمستقبل ، وتلجأ الى كل الوسائل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، لخلق مراكز ثقل ، تساوي العاصمة ، لاعتبارات استراتيجية كثيرة.
غادرت "الكرك" مقهورا ، ودون ادنى مبالغة ، لانني احسست انها رغم تاريخها ، مدفونة هناك خلف الطريق الصحراوي ، وهي تستحق غير ذلك.
مواقع النشر (المفضلة)