أولاًـ خصائص الشعر القديم/شعر الوزن والقافية(بحور الفراهيدي).
1ـ تلتزم القصيدة بصرامة مستلزمات الوزن والقافية.
2ـ وتبهضها الديكورات الفخمة من بيان وبديع وجناس وطباق ومجاز واستعارة ولا تخلو من الحكمة والمواعظ وغيرها من أفكار فلسفية .
3ـ قوافيها مضبوطة الحركات إلا ما ندر. فتسكين القوافي أمر غير مستساغ في عمود الشعر العربي, بل وقد يعتبر دليلا على ضعف الشاعر. الشعر إيقاع وحركة تعودتهما الأذن منذ عشرات القرون .
4ـ عدا عن إمكانية تجويز تسكين القوافي (وهو من الحلال البغيض, وهو سكون خارجي), فلا تسكين على الإطلاق في كلمات البيت الشعري الأخرى. لا سكون في داخل البيت. فالداخل يعج ويضج بشتى أنواع الحركات من رفع ونصب وجر.
5ـ يكاد وضوح القصيدة في المعنى والإشارة والاستعارة والمجاز أن يكون كاملا أو شبه كامل. فالأبيات فرادى والقصيدة ككل مفضوحة المقاصد والأغراض لا تستر نفسها إلا في القليل من الحالات (أقصد هنا الشعر الصوفي).
6ـ يمكن اختزال القصيدة بحذف بعض أبياتها التي تكرر معاني قيلت في أبيات أخرى دون أن يؤثر الأمر على مجمل سياق القصيدة معنى وقصدا.
7ـ الحقبة الزمنية/عمر القصيدة، يدعي المؤرخون، أن امرأ القيس كان أول من قال الشعر وأول من قيد القوافي وأبد الأوابد. أي أن هذا الشعر قد ولد قبل الإسلام بقرنين من الزمان...- إذا صح أن الشاعر امرأ القيس عاش في تلكم الحقبة من الزمن - واستمر معمرا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية (1945).
عمر طويل ولكن التغيرات التي طرأت عليه قليلة وجد بطيئة. مع نهاية هذه الحرب واجهت البشرية عصرا جديدا وعالما جديدا وثورة في العلوم النظرية والتطبيقية وقفزة جبارة غير مسبوقة في عالم الألكترونيات وأجهزة الاتصال وباقي منجزات التكنولوجيا الحديثة.
8ـ القصيدة ملزمة بقيود ثقيلة شديدة وأحكام صارمة لا تقبل نقاشا أو مساومة. لا وجود هنا لحرية التصرف بالشكل. كانت دوما مرآة صادقة لمراحل تاريخية منوعة من بداوة ورعي وزراعة وإقطاع ثم عهد الرأسمالية التي نعرف.
9ـ غارقة بإنجازات الفكر وسيطرة العقل الواعي وطغيان سطوة الرقيبين الداخلي (الشاعر نفسه) والخارجي (الحاكم والدين والمجتمع والتقاليد).
10ـ واقعيتها صارخة ومدوية تخترق الجلد وتنفذ للعصب العميق. لا تخجل من سفورها الكامل.
11ـ كان لها أمراؤها وشعراؤها الكبار المعروفون الذين ظلوا شامخين يطاولون ويتحدون الزمن.
12ـ لها أطوارها ومراحلها المشهورة كمرحلة الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي ثم العباسي والأندلسي و.و.و ...
13ـ تصميم بنائها ثابت الشكل, لأن التفعيلات تتغير بوتائر ثابتة في البيت الواحد, والبيت الواحد هذا يكرر نفسه وينقل إيقاع موسيقى هذه التفعيلات إلى عموم هيكل القصيدة. إيقاع ثابت، إذن يتكرر دوريا ومحدد التغير (ستاتيك) يحمل مضامين مكررة شبه ثابتة تقادم على أغلبها الزمن. على أن كل طور من أطوارها يتميز ببعض المعاني والمضامين والأغراض الخاصة.
14ـ نمو القصيدة الكمي عرضي ـ طولي لكنه ثابت بقوالب التفعيلات.
15ـ ليس هناك فراغات مكانية سواء في البيت الواحد أوفي عموم القصيدة كي يملؤها الشاعر بالنقاط. لا نقاط ولا تنقيط في القصيدة. هذا الأمر أتانا مع قصيدة الشعر الحر.
16ـ تلحن وتغنى بيسر. فهذا الأمر كثير الشيوع. شاع وانتشر منذ اقدم الأزمنة إذ رافق الغناء والطرب ومظاهر البطر والثراء. كما كان ـ وما زال ـ الوسيلة المثلى للتعبير عن الحزن والشجن. فما أكثر شعر المراثي والتعازي وطقوس البكاء.
17ـ يتذكر المرء هذا النوع من الشعر, يحفظه ويردده مع نفسه حسب مزاج الحالة الراهنة, فرحا أو حزنا, حكمة أو سخرية من أحد أو من الزمن...
ثانياً ـ خصائص قصيدة الشعر الحر / شعر التفعيلة الواحدة.
1ـ لها إيقاعها الموسيقي الخاص – تفعيلة واحدة سائدة مع بعض القوافي لتخفيف وطأة الإيقاع الواحد ودفع السأم عن أذن سامعها أو قارئها.
2ـ تتميز بالقليل من المحسنات البديعية ومظاهر الأبهة والفخامة وفذلكات الفكر والفلسفة ومواعظ الأئمة والدراويش .
3ـ أواخر الجمل والسطور والمقاطع ساكنة بشكل يكاد أن يكون مطلقا. وتلكم إحدى سمات الشعر الغربي المفروضة عليه بقوانين وطبيعة اللغات الغربية.
4ـ عدا ذلك فلا تسكين إطلاقاً في الباقي من كلمات البيت والمقطع ومجمل القصيدة.
5ـ مرامي الشعر الحر غير تامة الوضوح. والقصيدة ليست منبسطة أمام قارئها كالكف أوالسهل الممتد أمام ناظره. تترك القصيدة أبوابها مواربة بحيث يعتري البعض من جملها أو مقاطعها شيء من الغموض حينا ونصف العتمة حينا آخر. فيها غمزات وإشارات قابلة للتأويل, وتلك مزايا محببة وتستلزمها مقتضيات وأصول الفن الراقي.
6ـ لا يمكن اختزال القصيدة إلا بصعوبة. فحذف بعض أبياتها قد يسيء إلى مجمل معمار بنائها شكلا وفنا, بل وربما يهدم شموخ هذا البناء أو يشوه جمال توازنه الهندسي فيفقد القاريء القدرة على التذوق الجمالي والانسجام مع سحر الإبداع العصي بطبيعته على الفهم والتفسير.
7ـ الحقبة الزمنية/عمر القصيدة (1945 - 1990) - دشنت البشرية بعد الحرب العالمية الثانية عهدا جديدا وعصرا جديدا إذ أنهى استخدام السلاح النووي لأول مرة في تأريخ البشر (في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين) حقبة زمنية كبرى انهارت معها الإمبراطوريات القديمة وحلت محلها الولايات المتحدة الأمريكية التي سيطرت على مسرح الأحداث في العالم بفضل ما توفر لها من إمكانيات أسطورية في مجالات العلوم والمال والتكنولوجيا والأعلام وصناعة السينما في هوليود، فانتشرت ثقافتها وساد الكثير من أنماط حياتها في الكثير من بقاع العالم وخاصة في أوساط الشباب. مع نهاية الحرب العالمية الثانية إذن كانت قد ولدت قصيدة الشعر الحر(قصيدة التفعيلة الواحدة) عاكسة جو الحرية النسبي الذي ساد العالم بعد انهيار الفاشية في ألمانيا. هي إذن مرآة عصر الذرة وغزو الفضاء والقمر والصواريخ عابرة القارات, ثم هي لسوء الحظ الابن الشرعي لحقبة الحرب الباردة التي قيل إنها انتهت حوالي عام 1990 بعد سقوط جدار برلين وانكماش المعسكر الاشتراكي وتحول الكثير من بلدانه إلى معسكر الرأسمالية. إنها إذن حقا لا مجازا قصيدة عصر الحرب الباردة شئنا ذلك أم لم نشأ!! هذه الظاهرة بحاجة إلى دراسات مستفيضة. فقصيدة الشعر الحر كانت مسرحا حيويا لتوتر الصراع بين معسكري الاشتراكية والرأسمالية, وأنقسم الشعراء العرب تبعا لذلك ما بين مناصر لهذا المعسكر أو لذاك. انفصام حضاري وثقافي وعقائدي (أيديولوجي) حاد ضرب العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
8ـ خلافا للقصيدة القديمة, فان قصيدة الشعر الحر قد تمتعت بحظ وافر من حرية التصرف بالشكل كاستخدام تفعيلات قريبة صوتا من بعضها أحيانا بدل التقيد الصارم بتفعيلة واحدة بعينها. ثم الحرية في طول وقصر الأبيات والمقاطع, ثم إدخال الكثير من الرموز والأساطير ومصطلحات العصر والمفردات الأجنبية نظرا لسعة ثقافة شعرائها ومعرفة الكثير منهم لغات أجنبية سواء بالدراسة أو بالعيش في أوساط وبلدان غير عربية (أوربا وأمريكا مثلا). كما نشطت حركة ترجمة الأشعار الأخرى إلى اللغة العربية فأفاد منها الشعراء الشباب ليجدوا أنفسهم قريبين جدا من شعراء الأمم الأخرى ولا سيما شعراء النصف الأول من القرن الماضي حيث ترك بعضهم بصمات قوية على شعر هؤلاء الشباب. أخص بالذكر الشاعر الأسباني لوركا والشاعر الإنجليزي ت.س. اليوت والشاعر الشيلي بابلو نيرودا ثم الشاعر التركي ناظم حكمت فضلا عن شعراء فرنسا الرمزيين والسورياليين؛ رامبو وفاليري واراغون، ثم بودلير. عصر جديد ونوع جديد من الشعراء أفرزا نوعا جديدا من شعر نصف ثوري. أقول نصف ثوري لأن الدائرة ما كانت قد اكتملت بعد, ولم تنتصر الرأسمالية بشكلها الجديد وتفرض العولمة وظاهرة القطب الأوحد إلا بعد عام 1990, إذ دخلت الكرة الأرضية عصرا جديدا هو عصر الإنترنيت.
9ـ أتاح هذا الواقع والمناخ الجديد قدرا أكبر من الحرية لشعر وشعراء قصيدة التفعيلة الواحدة فتحررت جزئيا من سيطرة العقل الواعي ومن رقابة الفكر وضوابط المجتمع وأنظمة الحكم الصارمة. أجل, قد تحررت جزئيا لأن الشاعر نفسه ما كان قد نال تمام حرياته وما كان قد هضم تماما نتاجات عصره 1945 - 1990. والعالم بأجمعه كان يتهيأ بتراكم أحداث بعضها واضح وملموس والآخر غير واضح وغير ملموس لدخول عصر جديد تسود فيه دولة واحدة ونظام واحد هو نظام العولمة والقطب الأوحد أي (الرأسمالية الكونية). كان الشاعر منقسما على نفسه ويعاني من صراع حاد: قدم ما زالت ترتكز على عالم شعر بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي بينا القدم الأخرى ظلت معلقة في الهواء غير واثقة من مكانها ومن وضع هذا المكان. وكانت هذه واحدة من أبرز سمات فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى سقوط جدار برلين. لا أحد كان يدري لمن ستكون الغلبة في نهاية المطاف وأي النظامين سيسود العالم: الاشتراكية أم الرأسمالية؟؟؟
10ـ جاءت قصيدة الشعر الحر في أغلبها مزيجا مخففا ومقبولا من الواقعية والرمزية. كما رأينا دواوين شعر كاملة مخصصة للمرأة والجنس بل وحتى الجنس المكشوف كشعر الشاعر العراقي حسين مردان والشاعر السوري نزار قباني مثلا. كما لم تبتعد هذه القصيدة عن السياسة وأجوائها الصاخبة أبدا بدعوى الدفاع عن قضايا إنسانية أو أممية مرة أو عن قضايا وطنية وقومية مرة أخرى. كما احتلت قضية فلسطين مركزا متميزا في شعر الغالبية العظمى من شعراء هذه الحقبة, وكان الشاعر الفلسطيني محمود درويش وما زال فارسها المجلي.
11ـ لم تنجب قصيدة الشعر الحر شعراء كبارا من وزن أبي نؤاس وأبي تمام والبحتري والمتنبئ والمعري وغيرهم ممن قد عرفنا ودرسنا في حياتنا. فأولئك عاشوا عصورا تختلف جوهريا عن ظروف عصر قصيدة الشعر الحر. كما كانت متطلبات تلكم العصور مختلفة تماما عن متطلبات وشروط هذه القصيدة. ومع ذلك فقد برزت قلة من شعراء الشعر الحر..قلة قليلة لكنها هيهات أن تبلغ ما بلغ شعراء بحور الخليلي من مجد وعلو شأن..هيهات هيهات!! هذه الظاهرة صحيحة كذلك بالنسبة للغرب إذ لم ينجب في القرن العشرين شعراء عظاما كـدانتي وملتونوشكسبير وغوته وسواهم. 12- لم تتميز قصيدة الشعر الحر بمراحل كتلك التي مر بها شعر القصيدة القديمة (شعر بحور الخليلي). إنها قصيدة مرحلة واحدة هي في الحقيقة جد قصيرة في عمر البشر: خمسة وأربعون عاما فقط(1945 - 1990).
13ـ معمار القصيدة ذو شكل بسيط وثابت خال من الأركان والزوايا والشرفات والطوابق. فالتفعيلة الواحدة (وبعض أخواتها) غير قادرة بطبيعتها على استيعاب مستلزمات التعقيد, بل ولا تحتملها أبدا. فلكل ظاهرة في الحياة قدرات محدودة على الاستيعاب, يستوي في ذلك عالم المادة في الطبيعة والبشر والحيوان. هذه القدرات المحدودة, رغم ذلك, أفسحت المجال لإدخال مضامين جديدة أكثر تنوعا نابعة من صميم روح العصر الجديد وخاصة نتائج الثورة في مجال العلوم والتكنولوجيا.
14ـ نمو القصيدة الكمي هو الآخر عرضي - طولي لكنه غير ثابت. الشاعر غير مقيد بعدد ثابت محدود من التفعيلات يعاد رصفه مع كل بيت من أبيات القصيدة. جو القصيدة وظروف الشاعر وأحواله النفسية هي التي تحدد طول أو قصر البيت الواحد. قد يشغل البيت سطرا كاملا من الصفحة العادية أو قد يتكون من كلمة واحدة فقط. هنا يمارس الشاعر شكلا آخر من أشكال الحرية ما كان ممكنا أن يمارسه شاعر القصيدة القديمة: حرية التصرف بالمكان أفقيا. وحرية التصرف بالمكان أفقيا تمنح الشاعر ضمنا حرية التصرف بالمكان عموديا.
15ـ حرية التمدد في فضاء القصيدة المكاني أفقيا وعموديا تضع تحت تصرف الشاعر أشكالا أخرى من الحريات على رأسها حرية التصرف بالفراغات. فالفراغ حالة أخرى من حالات المادة يوظفه الشاعر لخلق شتى أنواع المؤثرات التي من شأنها إثراء الجو العام للقصيدة وتلوينها بالأوضاع المتباينة لحالات الشاعر النفسية.
16ـ قصيدة التفعيلة الواحدة لم تعرف الشيوع الذي عرفت القصيدة القديمة في مجال التلحين والطرب. بلى, غنت المطربة المصرية فائزة أحمد وغنى عبد الحليم حافظ بعض قصائد الشعر الحر للشاعر نزار قباني. وربما غنت قلة أخرى من المطربين بعض قصائد الشعر الحر، لكن ظلت السيادة شبه المطلقة لقصيدة الوزن والقافية في عالم الأنس والطرب, والسيادة المطلقة في عالم المراثي والمناحات وأحياء طقوس الكوارث الاجتماعية والدينية. لم يتورط كبار الملحنين والمطربين بتلحين أو غناء قصيدة الشعر الحر, لكنهم لحنوا وغنوا قصائد الوزن والقافية. كما غنى ألحان هذه القصائد سواهم من الفنانين. أذكر بهذا الصدد محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان. ومن العراق محمد القبانجي وعفيفة اسكندر، ثم يوسف عمر. لقد غنت هذه النخبة الممتازة من الملحنين والمغنين والمغنيات(وليس فيهن من لحنت أو جربت التلحين) الكثير من روائع شعر الوزن والقافية. لقد لحن وغنى محمد عبدالوهاب مثلا الكثير من أشعار صديقه ومتبنيه، تقريبا، أحمد شوقي, شاعر بحور الخليلي. كما غنت أسمهان مع عبد الوهاب أوبريت مجنون ليلى شعر أحمد شوقي.
17ـ وربما نتيجة لما قد سلف من الأسباب, لا يحفظ المرء قصيدة الشعر الحر ولا يرددها مع نفسه إلا فيما ندر من الحالات. الناس تحفظ الشعر المغنى إذا ما أعجبها اللحن وأجاد فيه مغنيه. وعليه فمن الجائز أن تنتشر قصيدة الشعر الحربين الناس حفظا بالتذكر والترديد إذا ما أبدع الملحنون وأجاد المغنون في أدائها. لقد حفظت عن ظهر قلب كلمات أغنيتي (رسالة من تحت الماء) و(قارئة الفنجان) بفضل جودة لحني هاتين الأغنيتين وإبداع عبدالحليم حافظ في أدائهما.
ثالثاًـ خصائص قصيدة النثر.
1ـ لا وزن فيها ولا قافية.
2ـ لا ديكورات فيها ولا توظف أيا من المحسنات البديعية ولا يخضع نمط التفكير فيها لقوانين الفكر المعروفة وأحكام المنطق السائد. الشاعر يرسم أجواء قصيدته وفق منظوماته الفكرية الخاصة وحسب متطلبات منطقه الخاص الذي يبدو للقارئ وكأنه(لا منطق) أو أنه(ضد المنطق). لكل شاعر عالمه الخاص الذي لا يضاهيه أحد فيه.
3ـ أواخر الجمل والسطور والمقاطع جميعا ساكنة من غير استثناء.
4ـ الكثير من مفردات القصيدة الداخلية قابلة للقراءة من غير حركات. سكون شبه كامل وقصيدة بلا حركات. وبهذا فإنها من بعض الوجوه شبيهة بقصائد الشعر العامي, شعر اللغة المحكية والدارجة الذي يسمى في السعودية(الشعرالنبطي). القصيدة تبدو كعالم هامد مسطح يفتقر إلى جهاز تنفسي, لأن في التنفس يتحرك الصدر إلى الجهات الأربع. حركات الأعراب في لغتنا هي حقا ومجازا عمليات تنفس تتحرك الكلمات معها وفيها فتمنحها نسمة روح الحياة ودفء دماء الجسد الحي الجارية.
5ـ القصيدة غامضة المرامي ومعتمة بشكل مطلق, لذا فإنها عصية على الفهم والتفسير,حتى على شاعرها نفسه..ربما. فهي لم توضع أصلا للتفسير والتأويل والأخذ والرد.على المرء أن يقرأها ويتمتع بما فيها من سحر وقدرة على بعث الدهشة في النفس البشرية ويتقبلها كما يتقبل لوحات بيكاسو. قف أمامها متأملا صامتا خاشعا.قف أمامها ولا تكلف نفسك مشقة السؤال لماذا وكيف. قف أمامها كما في لحظة صلاة.
6ـ لقد بينت في دراساتي عن قصيدة النثر التي نشرت في صحيفة(الزمان/لندن /العددين964 و965 بتأريخ10-11تموز2001 ثم ظهرت في كتابي الجديد(نقد وشعر وقص) الذي صدر في القاهرة عن(مركز الحضارة العربية) بينت وبرهنت أن قصيدة النثر إسفنجية البناء والتركيب والقوام,لذا فإنها قابلة للضغط والاختزال والشطب وتبديل مواضع الكلمات والجمل.إنها ملساء هشة,كالأفعى,أخطر وأضعف ما فيها رأسها.ويستوي في ذلك السام وغير السام من الأفاعي كما يعرف الجميع.
7ـ الحقبة الزمنية/عمر القصيدة:كتب ونشر بعض الشعراء وغير الشعراء قصيدة النثر منذ أزمان بعيدة. كما يجب ألا ننسى ونحن في معرض الكلام عن الزمن أن القرآن الكريم يمثل أعظم وأقدم قصيدة نثر في موروث العرب الديني والثقافي كما هو معروف.مع ذلك فإني أؤرخ العام1990عاما لبداية عصر سيادة قصيدة النثر شبه المطلقة.اجل,كانت قصيدة النثر معروفة قبل هذا العام ولكن أن تكون معروفة شيء,وأن تعتلي خشبة مسرح الشعر مكللة بغار نصر غير مسبوق..شيء آخر.لقد انتصرت القصيدة أخيرا كظاهرة ومرحلة عالمية شعرية وفنية وكتابية. انتصرت على مدرستي الشعر السالفتين: قصيدة عمود الشعر العربي ثم قصيدة الشعر الحر. وإذا كانت قصيدة الشعر الحر امتدادا و(نصف ولد شرعي حلال) للقصيدة القديمة, قصيدة الأوزان والقوافي, تحمل بعض سيمائها وشيئا من دمائها, فان قصيدة النثر لا ترتبط بأيما علاقة مع الأخيرة. إنها بالنسبة لموروثنا الشعري والثقافي مجرد (ولد سفاح) لا يعترف به قاضي الشرع.انتصرت وسادت مع انتشار وانتصار الكومبيوتر والإنترنيت والبريد الألكتروني E - MAIL. لذا فلقد أسميتها قصيدة عصر العولمة والإنترنيت, والقصيدة العابرة للقارات, وقصيدة عصر القطب الأوحد الذي أطلقت عليه في بعض كتاباتي عصر سيادة دولة (إسرائيكا), القطب الذي يسعى محموما بعد سقوط جدار برلين وانكماش المعسكر الاشتراكي عام 1990 إلى السيطرة وتأمين السيادة المطلقة على العالم. سيادة قصيدة النثر وعصرها لا تعني بالضرورة اختفاء مدرستي الشعر اللتين سبقتاها. فلقد ظلت القصيدة القديمة حية وتعايشت مع قصيدة الشعر الحر رغم سيادة الأخيرة عليها. نعم, لقد انحسرت رقعة القصيدة القديمة في بعض المحافل والأقطار العربية وقل عدد قائليها من الشعراء لكنها بقيت على قيد الحياة طيلة عصر سيادة قصيدة الشعر الحر منذ عام 1945 حتى 1990. الظواهر الاجتماعية والثقافية لا تختفي بشكل فجائي. إنها تمتد من أصول جذورها وتربة حقبتها لتجد لها مكانا مناسبا في تربة وظروف العصر الجديد. وعليها كيما تظل حية ومطلوبة أن تتكيف مع ظروف ومتطلبات الواقع الجديد. أي عليها أن تأخذ شيئا من طبائع الشعر الجديد الذي اكتسح ميدانها, أن تتخلق بأخلاق المولود الجديد. والأمر هذا صحيح ولسوف يثبت أنه صحيح بالنسبة لقصيدة الشعر الحر. أي أنها سوف لن تختفي ولسوف تبقى معافاة ومرغوبا فيها لفترات زمنية يصعب تقديرها, سواسية مع شعر بحور الفراهيدي. ثلاث مدارس لقول الشعر لا يستطيع أن يمحو بعضها البعض الآخر أبدا. لكن مدرسة قصيدة النثر ستبز ما عداها وتسيطر على المشهد الشعري العربي سيادة شبه مطلقة. إنها سنة الحركة والتطور في الحياة ولا مرد لها أبدا.
8ـ إذا كانت القصيدة القديمة محكومة بقيود الوزن والقافية والروي ونظام يتكرر دونما تغيير.وإذا كانت قصيدة الشعر الحر قد نفضت بعض هذه القيود فمارس الشعراء قدرا غير مسبوق من الحرية؛ في طول البيت وتسكين أواخر مفرداته والإكثار من استخدام النقاط وأدوات التعجب والاستفهام وإدخال المصطلحات الأجنبية والرموز والأساطير..أقول إذا كان ذلك قد اصبح أمرا واقعا فمن الطبيعي أن تجد قصيدة النثر(حفيد الفراهيدي غير الشرعي)الظرف مهيأ أمامها لتمارس ما مارسته قصيدة الحر وأن تزيد عليها أمورا في غاية الجدة والحداثة.. في ظروف وخصائص عصر العولمة واستنساخ البشر والحيوان والإنترنيت والبورنوPORNO والإيروتيكا وفوضى حريات وتعدد أشكال الجنس وانتشاره في الوسائل المقروءة والمرئية،كشوف خرافية في العالم الأصغر(الخلية الحية)والعالم الأكبر(الفضاء الخارجي).
9- تمرد مطلق على الفكر وعلى منطق قانونية اللغة وعلى السياق الزمكاني لتراتب الفعل والفاعل والمفعول به المعروف منذ نشأة العربية الأولى. حرية مطلقة في شكل القصيدة وفي مضمونها على حد سواء. فأي شكل سيتخذ الشعر بعد عصر قصيدة النثر والى أي منحى سيتجه؟؟ هل ستشهد الأجيال القادمة عصرا يقلب فيه الشعراء الفعل مفعولا والجار مجرورا وأن يجعلوا الفعل الحاضر دالا على الماضي تارة وعلى المستقبل تارة أخرى, والبذور موجودة الآن فلقد قال أحد شعراء عصرنا الراهن (فزورق الأبد مضى غدا وعاد بعد غد)؟؟ وأن يخلطوا الجنسين معا حيث لا فرق بين (هو) و(هي)؟؟ وأن يكون المفرد دالا على الجمع والجمع دالا على المفرد؟؟ وأن تعقد أخوات كان صفقات زواج مع أخوات إن؟؟ وأن تلغى ضوابط التفريق بين حرفي (الضاد) و(الظ)؟؟ لقد أصبح كل شيء جائزا في عصر العولمة والقطب الأوحد, والأتي بعدهما سيكون أشنع وأفظع وعلى الدنيا ألف سلام!!!
10ـ إذا كانت قصيدة عمود الفراهيدي صارخة الواقعية وقصيدة التفعيلة الواحدة مزيجا من الواقعية والرمزية فان قصيدة النثر سوريالية بشكل مطلق. لقد وجدت قصيدة النثر التي راجت مؤخرا بعيدة كل البعد عن منابعها الأولى. وجدتها على خلاف جذري مع أشعار رامبو وبريتون وآراغون وأشعار شعراء عرب معاصرين من أصحاب الريادة في هذا النمط من الشعر. شعراء قصيدة النثر الجدد من الشباب هم فرائد ملونة لا يشبه بعضها بعضا من حيث نوع ما يكتبون, خاصة أولئك الذين يقيمون لسبب أو لآخر خارج أوطانهم, وبشكل أخص من درس وتمكن من إحدى اللغات الأجنبية. ولأن قصيدة النثر سوريالية بشكل مطلق فأن مضامينها غير واضحة وغير محددة الهدف لذا فإنها لا يمكن أن تكون إلا بعيدة عن السياسة والقضايا الوطنية والقومية والأممية. فهذه الأمور تتطلب بطبعها فكرا واضحا وطروحات سياسية -اجتماعية معروفة ومقبولة هي في تناقض حاد مع طبيعة قصيدة النثر الغامضة والتي شطبت قوانين الفكر والمنطق وأقامت بدلا عنها قوانين فكرها ومنطقها الخاص.بلى,قد يتناول بعضهم أمورا غير شخصية لكن يتطلب الأمر بحثا ونبشا وتشريحا واجتهادات خاصة لفهم مراد الشاعر. مغامرة قد لا ترضي الشاعر وربما تسيء لشعوره.
11ـ لقد أنهت قصيدة النثر عصر القمم وكبراء وأمراء الشعر. ونعرف فيهم المتصابي والمصاب بداء العقدة النرجسية وتضخم الكبد وتصلب الشرايين إدمانا على شرب الكحول. فشاعر قصيدة النثر اليوم هو أمير على إمارة شعره الخاص, وكل شاعر مبدع هو سيد إمبراطوريته الخاصة. هم بارونات إقطاع شعري فني لا حصر ولا عد لهم. كل واحد منهم أمير وكبير يحكم مملكة عالمه الشعري بجدارة وتفرد. التعدد هو واحد من أهم وأخطر معطيات الحرية. وظاهرة عبادة الأصنام في عالم الشعر هي الوجه القبيح الآخر لظاهرة عبادة الأوثان في عالم السياسة!! من شأن عصر الإنترنيت والرأسمالية الكونية أن يزيلا الوثنيتين السياسية والشعرية.
12ـ ما دمت قد أقصرت بحثي المقارن هذا على دراسة قصيدة النثر التي عاصرت أحداث فترة ما بعد1990 وأطلقت عليها قصيدة عصر العولمة والقطب الأوحد والإنترنيت والاستنساخ والبورنو، فلا أحد يستطيع التنبؤ بما سيؤول إليه حال قصيدة النثر مستقبلا، ولا كم من الزمن سيطول بها هذا الحال. لا أحد يعرف كم ستعمر بوضعها الراهن ولا أي طابع ستتخذ وأي شكل وبناء. فلنترك هذا الأمر لنقاد المستقبل ممن سيعاصر هذه القصيدة. يكفي القول إنها الآن قصيدة مرحلة واحدة هي في الحقيقة جد قصيرة. وأن شعر ما بعد1990 مختلف جدا عن الشعر المنثور الذي قيل قبل هذا.
13ـ لعل أحد أكبر الفوارق التي تميز قصيدة النثر عما سبقها هو الشكل. فهي بلا شكل,إنها مثل حيوان الأميبا الذي يمكنه التمدد إلى كل الجهات.إنها قصيدة أميبية الشكل.وإذا كان الماء يتخذ شكل الإناء الذي يحتويه فان قصيدة النثر ماء بلا إناء!!
14ـ ولما كانت القصيدة لاتنتظم في قوالب ثابتة من التفعيلات,فان نموها في المكان هو نمو عشوائي منفلت بحيث يمكن وبسهولة أن تختلط الإحداثيات الفضائية الأفقية بالطولية.أي يمكن إبدال كلمة بأخرى أفقيا وعموديا أو سطر بسطر عموديا أو حتى إنزال مقطع كامل ليحل محل مقطع آخر جاء تحته والعكس بالعكس. ماء بلا إناء.
15ـ لما كانت قصيدة النثر بناء أميبي إسفنجي مخلخل الدواخل فان شاعرها لعلى قدرة كبيرة على توظيف النقاط سواء التي تأتي بين مفردات السطر الواحد أو ما بين السطور والمقاطع.ولكل كم ووضع دلالالته الخاصة التي يفهمها الشاعر لاشك أفضل من قرائه.قد يحسن القارئ تفسير هذه الدلالات والمدلولات لكنه قد يكون على خلاف مع كاتبها,فالمعنى يظل في قلب الشاعر.ثم يجب ألا ننسى أن النقاط هي كتل مادية تشغل فراغا معينا في هيكل بناء القصيدة الإسفنجي والأميبي.الإفادة الفنية من هذا الفراغ تتطلب حسا جماليا عاليا وذوقا رفيعا بل وحاسة شم وسمع على درجة كبيرة من الحنكة والدربة الشعرية.والفراغ وكيفية ملئه من أكبر معضلات وهموم الرسامين.
16ـ لم تلحن قصيدة النثر بعد ولم يشد بها أحد حتى اليوم. ربما بسبب تأخر سيادتها على عالم الشعر وحس وذائقة قراءه ونقاده.كل شيء في الحياة طبيعة ومجتمعا يتحرك فيتغير. سيأتي يوم نجد فيه أنفسنا أمام لحن يغنى قصيدة نثر. سوف لن يؤثر فينا أو في اغلبنا بادئ الأمر لكنه وسواه سيأخذ طريقه إلى الذائقة العامة مع الزمن. فالتذوق تعود، وحواس الجسد الإنساني من المرونة بحيث يمكن تدجينها وتطويعها ثم إخضاعها للكلام الغريب المصاغ حديثا بإيقاعات موسيقية جديدة بحيث تتقبلها وتأنس لها ثم تنسجم فتحدث هزة الطرب ونشوة الوجد وتنبعث الذكريات المفرح منها والمبكي.الإنسان ابن، بل، وعبد عاداته وكان المتنبيء قد قال(لكل امرئ من دهره ما تعودا..).ربما لا أكون مصيبا في تنبؤاتي هذه, ذاك لأن كلام قصيدة النثر كما بينت سلفا لا ينسجم ولا يأتلف مع منطق اللغة العربية وسياق تدرج أحكام العقل وقوانين الفكر التي ألفتها أجيالنا والأجيال التي سبقتنا منذ نشوء العربية التي ثبتها القرآن الكريم قبل 15 قرنا. فالمشكلة إذن كامنة في اللغة. لغة قصيدة النثر وهي المعضلة. ومشكلتها مزدوجة: مع قراء القصيدة أولا ومع ملحني الأغاني ثانيا. ثم يأتي الإشكال الآخر: أن قصيدة النثر لا أثر فيها لألفاظ وإيحاءات الحزن واللوعة والحب والفرح ومشتقاتها المألوفة. والغناء لا يكون غناء بدون هذه الأمور كما نعلم. مطلوب من الغناء أن يهز أعصاب وأعماق سامعه, وقصيدة النثر لا يسعها ذلك. إنها في تناقض عميق مع الغناء ومستلزمات الخفة والرقص والطرب أو الحزن ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب..فمن يغامر فيلحن أغنية بكلام قصيدة نثر؟؟ من؟؟
17ـ لكل هذه الأسباب لا يحفظ قراء قصيدة النثر كلامها ولا يرددونه في خلواتهم مع أنفسهم ولا يترنمون به فرحا أو حزنا. لكن سيحفظه الناس وسيرددونه مع أنفسهم أو مع بعضهم فيما إذا جرى تلحين هذه القصائد كأغان وبشرط أن تجد هذه الألحان من يتقبلها ومن يتذوقها فينسجم مع كلامها أو مع إيقاعاتها. وعلينا أن ننتظر ـ وقد يطول الانتظار ـ الزمن الذي تنضج فيه الظروف وتتغير الطبائع بشكل جذري فيصبح تلحين هذا الشعر ممكنا. وعند ذاك سيفرض نفسه واقعا مهيمنا وجبار السطوة. لنتذكر فقط ظاهرة قبول الشعر الحر ملحنا وشيوعه البطيء بين الناس.
هذه وجهات نظر قابلة للنقاش والرد. وعليه فإني لا أدعي ولا يمكن أن أدعي أنها منزلة من الأعالي ومعصومة عن الخطأ أو المبالغة أو حتى التطرف في صياغة بعض الأحكام. لقد جعلت المقارنة بين مدارس الشعر الأساسية الثلاث في عالمنا العربي (الشعر العمودي والشعر الحر ثم قصيدة النثر) مقارنة منهجية صممتها وفق نقاط محددة وضعتها نقطة في مقابل أخرى تيسيرا لهذه المقارنات. مجموع هذه النقاط سبعة عشر نقطة قابلة بالطبع للزيادة والنقصان. والذي أرجوه مخلصا أن يساهم الشعراء والنقاد والمثقفون في مناقشة هذه المقارنات وإغنائها بما يعرفون ولا أعرف, وخاصة فيما يتعلق بقصيدة النثر التي طال الجدل فيها وعنها وتشعب ولما ينته بعد. بل وقد يطول كما أحسب.. أخيرا لا أرى ضيرا أن أعترف بأني أشعر إلى حد القناعة أني لم أستطع إيفاء هذا الموضوع الجليل كل ما يستحق من اعتبار وشمولية. وسوف لن أستطيع بمفردي. فعلى جميع من يعنيهم حاضر ومستقبل هذا الموضوع أن يساهموا وأن يشركوا أنفسهم وأقلامهم وهممهم في هذا الأمر .
مواقع النشر (المفضلة)