بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) [النساء 3].
نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنة الثامنه للهجرة، وكان سبب نزولها تحديد عدد الزوجات بأربع، وقد كان إلى حين نزولها لا حد له, ومن رحمة الله بالإنسان وفضله عليه أن أباح له تعدد الزوجات وقصره على أربع, فللرجل أن يجمع في عصمته في وقت واحد أربعة نساء، ولكن الله يأمر بالعدل بينهن، والاقتصار على واحدة في حالة الخوف من عدم العدل. إلا أنه يجب أن نعلم أن العدل ليس شرطاً في إباحة تعدد الزوجات، وإنما هو حكم لوضع الرجل الذي يتزوج عدداً من النساء، أي أن تعدد الزوجات حكم شرعي والعدل بينهن حكم شرعي آخر غير الحكم الأول "فنتبين من ذلك أن الله أباح تعدد الزوجات دون قيد أو شرط ودون تعليل". أما ما هو العدل المطلوب بين الزوجات، فهو ليس العدل المطلق، إنما هو العدل في الزوجية بين النساء الذي يدخل في طاقة البشر أن يقوموا به؛ لأن الله لا يكلف الإنسان إلا ما يطيق قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة 286] فالعدل الواجب على الزوج هو التسوية بين زوجاته فيما يقدر عليه من المبيت ليلاً والطعام والكسوة والسكنى وماشاكل ذلك. أما الميل، وهو الحب والاشتهاء، فإنه لا يجب العدل فيه لأنه غير مستطاع ومستثنى بنص القرآن قال تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء 129] لأن الإنسان لا يستطيع أن يعدل في محبته، ويؤيد ذلك حديث عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم فيعدل ويقول : «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك, فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (يعني قلبه) أخرجه الحاكم وابن حبان.
وهذا التعدد ليس واجباً وليس مندوباً، وإنما هو مباح أباحه ألإ سلام للرجل في الوقت الذي يحب, وبناء على ذلك نتبين أن الجماعة التي يباح فيها تعدد الزوجات لا يحصل فيها تعدد الخليلات، والجماعة التي يمنع فيها تعدد الزوجات يحصل فيها تعدد الخليلات. علاوة على ذلك فإن تعدد الزوجات يعالج الكثير من المشاكل التي تحصل في الجماعة الإنسانية بوصفها جماعة إنسانية وتحتاج إلى أن يعالجها تعدد الزوجات ومن هذه المشاكل ما يلي:
1- إن الإسلام رسالة إنسانية عُليا كُلف المسلمون أن ينهضوا بها ويقوموا بتبليغها للناس, وذلك يحتاج إلى دولة قوية, تتوفر لديها مقومات الدولة القوية المرهوبة الجانب، وذلك يحتاج إلى التعداد السكاني وكثرة الأفراد العاملين لذلك, والسبيل الوحيد لهذه الكثرة يكون عن طريق الزواج المبكر من جهة, والتعدد من جهة أخرى, ولقد أدركت الدول الحديثة قيمة الكثرة العددية فعملت على زيادة عدد السكان بتشجيع الزواج ومكافأة من كثر نسله.
ولقد فطن الرحالة الألماني (بول أشميد) إلى خصوبة النسل لدى المسلمين، واعتبر ذلك عنصراً من عناصر قوتهم فقال في كتاب «الإسلام قوة الغد»: إن مقومات القوى في الشرق الإسلامي تنحصر في ثلاثة عوامل:
أ- في قوة الإسلام كدين، وفي الاعتقاد به، وفي ُمثلهُ، وفي تآخيه بين مختلف الجنس واللون والثقافة.
ب- وفي وفرة مصادره الطبيعيه التي تمتد من المحيط الأطلسي على حدود مراكش غرباً إلى المحيط الهادي على حدود إندونيسيا شرقاً, وتمثل هذه المصادر العديدة وحدة اقتصادية قوية واكتفاء ذاتي لا يدع المسلمين في حاجة مطلقة إلى أوروبا أو غيرها إذا ما تقاربوا وتعاونوا.
ج- خصوبة النسل البشري لدى المسلمين مما جعل قوتهم العددية متزايدة, ثم قال: فإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث كان الخطر الإسلامي خطراً منذراً بفناء أوروبا وبسيادة عالمية في منطقة هي مركز العالم كله.
2- والدولة صاحبة الرسالة كثيراً ماتتعرض لأخطار الحروب، بالإضافة إلى الأمراض الوبائية أو الزلازل والأعاصير كغيرها من الدول. فتفقد كثيراً من الأفراد، فيكثر فيها عدد البنات والأرامل، ولا بد من رعايتهن، ولا سبيل إلى حسن رعايتهن إلا بتزويجهن، وحتى يتم تعويض من فقدوا إنما يكون بالإكثار من النسل والتعدد من أسباب الكثرة.
3- يكون أحياناً عدد الإناث في بعض الشعوب أكثر من عدد الذكور نتيجة الحروب كما ذكرنا أو في حالة السلم، وهذه الزيادة تحتاج لتعدد الزوجات حتى لا ينحرفن ويقترفن الرذيلة فيفسد المجتمع وتنحل أخلاقه، أو يقضين حياتهن فى ألم وحرمان وشقاء العزوبية.
يقول الدكتور (محمد يوسف موسى): كنت أنا وبعض إخواني المصريين في حضور مؤتمر الشباب العالمي بمدينة ميونخ بألمانيا سنة1948؛ لبحث مشكلة زيادة عددالنساء بألمانياعلى عدد الرجال بعد الحرب، وعرض حلول لهذه المشكلة, فتقدمت أنا وزميلي بأن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو تعدد الزوجات, فقوبل الرأي بالدهشة والاشمئزاز, وكانت النتيجه أنه اعتبر توصية من التوصيات التي أقرها المؤتمر.
وكان مما سرني عندما عدت إلى الوطن عام 1949 أن بعض الصحف المصرية نشرت أن أهالي مدينة بون عاصمة ألمانيا الغربية طلبوا أن ينص الدستور على إباحة تعدد الزوجات.
4- إن استعداد الرجل للتناسل أكثر من استعداد المرأة, فهو مهيأ لذلك منذ البلوغ إلى سن متأخرة، بينما المرأه لا تتهيأ لذلك فترة الحيض والنفاس والولادة، يضاف إلى ذلك ظروف الحمل والرضاع, كذلك استعداد المرأة للولادة ينتهي بين الخامسة والأربعين والخمسين وأحياناً في الأربعين، بينما الرجل يستطيع الإخصاب إلى ما بعد الستين والسبعين, فإذا كانت المرأة عاجزة عن أداء الوظيفة الزوجية، فماذا يصنع الرجل في هذه الفترة؟ فالأفضل أن تكون له زوجة أخرى تعف نفسه وتحصن فرجه، يقول الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور 2].
5- وقد تكون الزوجة عقيمة لا تلد, أو مريضة مرض لا يرجى شفاؤه، وهي مع ذلك لها من الحب في قلب زوجها وله من الحب في قلبها، والزوج راغب بالنسل ولديه حب لأولاده، فإما أن يرضى بهذا الواقع الأليم ويحرم من الأولاد، وإما أن يطلق الزوجة التي يحب حتى يتزوج بأخرى لينجب الأولاد؛ لهذا كان لزاماً لهذا الزوج أن يجد الحل في الإسلام فيتزوج بأخرى وينجب منها الأولاد مع الاحتفاظ بزوجته الأولى التي يحب.
6- توجد طبائع غير عادية في بعض الرجال, لاتكتفي بواحدة من النساء خصوصاً بالمناطق الحارة، فهم إما أن يرهقوا هذه الزوجة ويضروها، وإما أن يتطلعوا إلى الرذيلة والفاحشة؛ لذلك كان لزاماً أن يجد صاحب هذه الطبيعة المجال أمامه مفتوحاً لأن يسد جوعة جسمه القوية من الحلال الذي شرعه الله، ألا وهو تعدد الزوجات.
هذه بعض الأسباب الخاصة والعامة التي لاحظها الإسلام, وهو يشرع لا لجيل خاص من الناس ولا لزمن معين محدد, وإنما يشرع للناس جميعاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في كل زمان ومكان.
ولقد كان لهذا التشريع والأخذ به في العالم الإسلامي فضل كبير في بقائه نقياً بعيداً عن الرذائل والفواحش التي فشت وانتشرت في المجتمعات التي لا تؤمن بالتعدد ولا تعترف به، ولقد لوحظ في هذه المجتمعات ما يلي:
1) شيوع الفسق وانتشار الفجور حتى ازداد عدد البغايا عن عدد المتزوجات في تلك المجتمعات.
2) كثرة المواليد من السفاح, حتى إن نسبتها بلغت أكثر من نسبة المواليد الشرعيين, وفي الولايات المتحدة الأميركية يولد في كل عام أكثر من مائتي ألف ولادة غير شرعية, وهذا يبين لنا مدى انحطاط مستوى الأخلاق في أميركا.
3) أثمرت هذه العلاقات غير الشرعية الكثير من الأمراض الخبيثة, والعقد النفسية, والاضطرابات العصبية.
4) تسربت عوامل الضعف والانحلال إلى النفوس.
5) انحلت الصلة بين الزوج وزوجته, واضطربت الحياة الزوجية وانفكت روابط الأسرة ولم يصبح لها قيمة.
6) ضاع النسب الصحيح, حتى إن الزوج لا يستطيع أن يجزم بأن الأولاد الذين يقوم بتربيتهم هم من صلبه.
هذه المفاسد وغيرها كانت نتيجة طبيعية لمخالفة الفطرة والانحراف عن تعاليم الله, وهي أقوى دليل وأبلغ حجة على أن رأي الإسلام هو أسلم رأي, وأن تشريعه هو أنسب تشريع للإنسان في كل مكان وزمان.
تاريخ تعدد الزوجات:
الحقيقه أن هذا النظام كان سائداً قبل ظهور الإسلام في شعوب كثيرة منها:
العبريون والعرب في الجاهلية, والصقالبة أو السلافيون وهي التي ينتمي إليها معظم أهل هذه البلاد التي نسميها الآن: روسيا, ليتوانيا, ليثونيا, إستونيا, بولونيا, تشيكوسلوفاكيا, يوغوسلافيا.
وعند بعض الشعوب الجرمانية والسكسونية التي ينتمي إليها معظم أهل البلاد التي نسميها الآن: ألمانيا, النمسا, سويسرا, بلجيكا, هولندا, الدانمارك, السويد, النرويج, إنجلترا.
فليس صحيحاً ما يدعونه من أن الإسلام هو الذي أتى بهذا النظام, والحقيقة أن هذا النظام (تعدد الزوجات) لا يزال منتشراً في الوقت الحاضر في عدة شعوب لا تدين بالإسلام مثل أفريقيا, والهند, والصين, واليابان.
فليس بصحيح أن هذا النظام مقصور على الأمم التي تدين بالإسلام كما يزعم الغرب, وأنه كذلك لا علاقه للدين المسيحي في أصله بتحريم التعدد, ذلك أنه لم يرد في الإنجيل نص صريح يدل على هذا التحريم, ولم ينتشر نظام الزوجة الواحدة إلا عند شعوب اليونان والرومان.
وهناك حقيقة أخرى: وهي أن نظام تعدد الزوجات لم يبد في صورة واضحة إلا في الشعوب المتقدمة في الحضارة, على حين أنه منعدم في الشعوب البدائية المتأخرة كما قررعلماء الاجتماع وعلى رأسهم (وسترمارك, وهوبهوس, وهيلير, وجنربرج).
ويرى كثير من علماء الاجتماع ومؤرخي الحضارات أن نظام تعدد الزوجات سيتسع نطاقه إلى غير الدول الإسلامية، ويكثر عدد الشعوب الآخذة به كلما اتسعت وتقدمت المدنية والحضارة, فليس بصحيح إذن ما يزعمونه من أن نظام تعدد الزوجات مرتبط بتأخر الحضارة بل هو العكس تماماً, فحيثما وجد هذا النظام وجدت النهضة والحضارة والتقدم.
وأخيراً أقول إنني لا أقف موقف المدافع عن الإسلام، بل أردت أن أبين في مقالي هذا أن الأحكام الشرعية هي الحق لأنها من عند الله فحسب وليس لأي اعتبار آخر، وأن نظام الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأن السبيل الوحيد للنهضة هو تطبيق الإسلام تطبيقاً شاملاً كاملاً في جميع نواحي الحياة, نسأل الله أن يرزقنا بالإمام العادل الذي يطبق علينا الإسلام.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور 5].
مواقع النشر (المفضلة)