نملك، بحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ان نعدد انواعاً من ''الغياب''، نعتقد أنها المسؤولة عما نحن فيه من بلاء عميم وتخلّف مقيم، وإن من ذلك، فيما يحتمله المقام:.
اولاً: غياب درس النحو(منطق المعنى) وغياب درس البلاغة (منطق البيان) وغياب درس الكلام (منطق المناظرة والمحاججة) وغياب درس الاصول (منطق الاجتهاد)، كل ذلك تأدى الى هبوط سوية العقل العربي المعاصر. فاذا زدنا على ذلك غياب المنطق الصوري نفسه، ثم المنطق الرياضي ثم مناهج العلوم الحديثة، فإن ما يتحصّل من ألوان الغياب هذه هو غيبوبة الوعي والركون الى سمادير الاحلام وأمشاج الاوهام، وذلك ما نعاني منه اليوم على وجه التحديد أو بأدق توصيف وأوجزه.
ثانياً: غياب القيم الحيوية للمجتمع العفي: قيمة العلم، وقيمة العمل، وقيمة الوفاء، وقيمة الشرف، وقيمة الصدق، وقيمة العدل، وقيمة المساواة.
وما ارتبط بهذه القيم أو تعلق بها من ألوان السلوك، اذ استبدلنا بها جملة - الا في حالات نادرة - قيم السوق - الوثن المعبود في هذه العهود - والتي قوامها الامتلاء والتفريغ الحسيّين، على نحو شبيه بالانعام، بل اضل سبيلا..
ثالثا: غياب الرغبة في الدفاع عن الحياة نفسها، وقبول ان تكون في ادنى مستوياتها، وترك مطالبها الضرورية من حرية وكرامة وكفاية، والرضى بأن تكون منكرة، واعتبار ذلك قدراً مقدوراً، على حين تدافع الكائنات وحيدة الخلية عن انفسها، وتسعى سعيها المشهود في تحصيل مطالبها الحيوية واسباب بقائها ونمائها.
رابعاً: غياب الشعور بالمسؤولية عن الذات وعن الاخرين في آن، وأكثر ما يكون ذلك في ''السياسة'' التي آلت الى مناهج ذات تقاليد في قهر الناس او ترويضهم (!) أو سوقهم الى مصارعهم على طبول الحرية والديمقراطية والعزة الوطنية!!.
خامساً: غياب الحس التاريخي، واقتصار الوعي على اللحظة القائمة: حيثياتها، وما يثور في فنجانها من زوابع، وما يتعاظم من أخيلة، بحيث حجبت (هنا.. والان) كل مكان وزمان، على حين تخطط الامم الحيّة لعقود السنين، وترى الى شبكة واسعة من العلاقات تستغرق العالمين..
وان من موجبات التعجب أننا - وعلى الرغم من ضروب الغياب هذه - ما نزال نحسب اننا بفعل الثرثرة ورفع العقائر قادرون على ان نحقق حضوراً غالباً قميناً بالاعجاب، وهي غفلة غافلة أو جهل مركب يصعب الخروج منه، الا ان تتبدل اجيال بأجيال، مما لا نقطع الامل فيه ابداً، ومما تأتينا بشاراته، على تقطّع، بين حين وحين..
بقي أن نقول ان للغياب، فيما اشرنا إليه من تجلياته، وفيما يمكن ان نرده اليها من اشباه ونظائر، اثره الحاسم في اجتراء الامم علينا، وفي تداعيها الممقوت على أوطاننا، وان من طبائع الامور ان حضور الوعي وحضور القيمة وحضور الحس بالحياة هي مفاتيح الخروج من هذه الغيابات جميعاً.
نعلم هذا كله علم اليقين، ونخزى الخزي كله، لأننا لا نحرك ساكناً في دفعه ولا نستبين سبيلا..
مواقع النشر (المفضلة)