(شراك) الذاكرة
..لا أذكر يوماً أن نفد الخبز من بيتنا،كما لا أذكر أن نفد طعم ''الكماج'' من ذاكرتنا طيلة فترة الطفولة الطرية كقطعة عجين،يكاد يكون فرضاَ سادساً تؤديه أمي بعد صلاتها ،أن تتفقد الأرغفة الملفوفة بسجادة صلاة..وإذا ما لاحظت نقصانها، تبيّت عجنة الغد بكل رضا، تتناول المنخل المتكىء على نفسه فيتناثر الضوء من ثقوبه فجأة، تحضر الماء الدافىء كأمومتها، وتغرف برفق طحين صديق كانت قد ''سربت'' قمحه بيديها، ثم تبدأ بتقليب الطحين الأبيض بعتمة الليل الأسود بلون الماء المحايد..
قبل الغروب، غالباً ما كنّا نقايض أمّي إذا ما طلبت منّا تحويش ''الدجاجات'' الى الخمّ..أن تخبز لنا ''شراكا'' بدلاً عن هذه الخدمة السهلة وغالباً ما كانت توافق.. كنّا نجمع لها حطباً بسيطاً: جذع زيتونة ميتا ''سحارّة'' مكسورة، خشب ''طوبار'' مرميا على ظهر الخم..ثم يقوم أشجعنا ويحضر ''الصاج'' المعلّق على صدر فرن الطابون المعتم،يقلبه على مربّع أحجار قرب السياج الطيني، تحضر أمي وعلى كتفها المعجن..تكنس ظهر الصاج بمقشة ''قيصوم'' ، ثم تمسحه بخرقة بالية، ''تدوزنه'' جيداً كسرير طفل لينام الرغيف نوماً هنيئاً على فراش الوهج..تميل أمي الى اليمين تقتطع من العجين ''العويص'' أقراصاً على عددنا و تنسى نفسها، أحياناً كانت تتذكر أبي المسافر فتخبىء له رغيفاً على ركبتها وعندما نسألها لمن هذا الرغيف كانت تقول: لي، له، ليأكله أبوكم إذا ما عاد، فأشبع أنا.
الدخان الخارج من ''تحت الصاج'' كان بلون الغروب أزرق ومعتما لكنه مؤقت وسريع الذوبان في الليل.. فور أن يحلّق فوق رؤوسنا بشبر أو شبرين كان يتبدد كانه ليس هنا....كانت تخبز لنا ''شراكاً'' شهياً نأكله قبل أن يلامس ''منسفة القش''..كان الخبز مغمّساً بطعم الدخان المرّ..هناك طعم لخشب الزيتون وللحطب القديم، كان الرغيف مبخراً بدخان لذيذ يطفىء جذوة الجوع.. كثيراً ما كنت أتأمل ''رغيفي'' قبل أن آكله، أتخيل ''لذعات'' النار على أطرافه، وأقرأ ''علامات الترقيم'' المزروعة فوق محيطه، هنا فاصلة كبيرة بين الجوع والشبع، وهذه علامة تعجّب، هنا حروف غير مكتملة صنعتها النار، وهنا وجه أبي مرسوم بخطوط الليل والأمل والسفر..كنت أقرأ رغيفي عن ظهر قلب قليلاً ثم آكله..وعندما أجد نفسي وحيداً قرب الرماد..كنت أركض خلف أمي العائدة بمعجنها الى غرفتنا الوحيدة..
لم نخف يوماً، أو نقلق، أو نبتزّ.. فقد كان القمح قمحنا، والنار نارنا، واليد يدنا.. لذا لم يكن يجرؤ الجوع على الاقتراب منّا أبداً..
***
الآن إذا ما أغلق السوبر ماركت أبوابه باكراً أو نسينا موزّع الخبز، نامت العائلات بجوعها..بصراحة لم تعد هناك امومة حقيقية، غزيرة ومفعمة كما كانت..
كُل المحبة لكاتبنا أحمد حسن الزعبي ...
مواقع النشر (المفضلة)